الأزمة الاقتصادية تُغيّر البنية الديموغرافية للبنان

لم يشهد لبنان من قبل تراجعًا كهذا في عدد الولادات، وهذا التراجع هو واحد من المؤشرات الثلاثة الدالّة على انخفاض معدّل النمّو السكّاني، إلى جانب ارتفاع معدّل الوفيّات وارتفاع نسبة الهجرة.

تضيّق الأزمة اللبنانية على اللبنانيين خياراتهم في الحياة. فغالبية الأُسر تلجأ إلى التقشّف، لتتمكن من الصمود في ظلّ الغلاء الفاحش وارتفاع تكاليف الحياة الأساسيّة، من غذاء وطبابة وتعليم، وصولًا إلى الرفاهية. ويمكن أن نلحظ أثر الاختناق المعيشي هذا على ديموغرافية لبنان أيضًا. إذ تُشير الإحصاءات الحديثة إلى تغيّر البنية الديموغرافية للبنان، عبر تراجع نسب الولادات وارتفاع حالات الوفاة. 

ووفقًا لـ"الدولية للمعلومات"، في تقريرها الأخير الصادر عام 2021، وبحسب مدير الموقع جواد عدرا، فإن لبنان يشهد تراجعًا لافتًا في نسبة الولادات.

أرقام "الدولية للمعلومات" بحسب الرسم البياني أعلاه تُظهر تراجع عدد الولادات في العام  2021 مقابل العام 2020. عدد الحالات المسجّلة لعام 2020 وصلت إلى 74.049 حالة ولادة، بينما بلغت عام 2021 68.130 حالة ولادة مسجّلة، أي بتراجع قدره 5,919 حالة ولادة للعام 2021.

بحسب المختصّة في قضايا السكّان، د. سناء صبّاح، ليست هناك أرقام دقيقة حول معدّل النمّو السكّاني في لبنان، نظرًا لغياب قاعدة بيانات دقيقة يمكن اللجوء إليها. لكن بحسب المؤشرّات الحالية، يشهد لبنان انخفاضًا في الخصوبة عند الأمهّات، ما يؤثّر على عدد الولادات. تضيف: "لم يشهد لبنان من قبل تراجع كهذا في عدد الولادات، وهذا التراجع هو واحد من المؤشرات الثلاثة الدالّة على انخفاض معدّل النمّو السكّاني، إلى جانب ارتفاع معدّل الوفيّات وارتفاع نسبة الهجرة".

 

استمّر تراجع عدّاد الولادات في لبنان للعام 2022، وفقًا لمعلومات إحصائية إضافية نشرها موقع المديريّة العامّة للأحوال الشخصيّة للعام 2022 عن عدد الولادات والوفيّات. بحسب هذه المعلومات، بلغت حالات الولادة في لبنان 62,868، بفارق 5,262 حالة عن عام 2021.

الأسباب الكامنة وراء هذا التراجع في معدّل الولادات متعددّة، لكن الأزمة الاقتصادية تبقى العنصر الأساسي في قصص اللبنانيين عن تأجيل الإنجاب، والذي يعود إلى تكاليف أساسيّات الحياة التي أصبحت باهظة ومعقدّة. 

زينب، أمٌ لطفلين، تعمل اليوم كمدرسّة لذوي الاحتياجات الخاصّة من السابعة صباحًا إلى الثالثة عصرًا. "عملي صعب، يفوق قدرتي، وبرغم كل الجهد المبذول، أتلّقى راتبًا قدره 4 ملايين ليرة لبنانية ومئة دولار". 

قسمٌ كبيرٌ من اللبنانيين، غير الموظّفين في الدولة، بات يتقاضى جزءًا من راتبه بالليرة، وجزءًا آخر بالدولار، لكن الارتفاع الدائم في سعر صرف الدولار أفقد الراتب بالعملة المحليّة قيمته. تضيف زينب: "يذهب جزء كبير من راتبي لوقود سيارتي للتنقّل من منزلي إلى مكان عملي، وبقية الراتب بالكاد تكفي لتأمين المستلزمات المعيشية الرئيسية الأخرى". 

زينب ليست المُعيل الوحيد في المنزل، إذ يعمل زوجها في أكثر من وظيفة، ويُعطي دروسًا خصوصيّة للطلّاب ."عايشين على القدّ"، تقول زينب، التي لا تفكّر بالإنجاب مجددًا في ظلّ هذه الظروف. إذ إن هذا الأمر تسبقه تكاليف وطبابة وتأمين حاجيات أطفال، في وقتٍ يصعُب فيه توفّر النوع المناسب من الحليب. وهذه أزمة أخرى تُلقي بثقلها على الأهل، ناهيك عن ارتفاع الأسعار.

حق الطبابة يخسر أمام الدولار

التراجع الملحوظ في أعداد الولادات انعكس على الخدمات الطبيّة المتعلّقة بالتوليد. إذ أًغلقت العديد من أقسام الولادة في مستشفيات، كما تراجعت حالات الزيارات للأطبّاء المتخصصين بالولادة، وهو ما يؤكدّه مدير برنامج الصحة النسائية المتكاملة في المركز الطبي للجامعة الأميركية في بيروت، د. فيصل القاق لـ"أوان"، حول تأثر الكثير من القطاعات بفعل الأزمة الاقتصاديّة، تحديدًا قطاع الخدمات الصحيّة والرعائيّة: "مع انخفاض قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار والغلاء المعيشي، ارتفعت كلفة الخدمات العياديّة، والزيارات للأطباء، وما تشتمل عليه من إجراءات داخل العيادة للنساء الحوامل، كالفحوصات والصور الصوتيّة. وبسبب عبء هذه التكاليف، أخذت بعض النساء يقلّلن الزيارات إلى العيادات الخاصّة، ويلجأن إلى مراكز الرعاية الأوليّة والمستوصفات المدعومة من وزارة الصحّة أو وزارة الشؤون الاجتماعيّة والجمعيّات الأهليّة".

يشير القاق إلى أنّ نسب التوليد في القطاع الخاص تدنّت في مقابل القطاع العام، نظرًا لارتفاع الكلفة في العيادات الخاصّة، ما أثّر على أقسام التوليد في المستشفيات والأقسام التي تعنى بتقديم خدمات الصحّة الرعائيّة للنساء، وأنتج تراجعًا في عدد العاملين في هذه الأقسام. 

يعرض القاق تكاليف الخدمات الصحيّة المتعلّقة بالحمل والولادة، ففي القطاع الخاص "تتراوح كلفة زيارة العيادة من 20 إلى 40 دولار كحدّ أدنى، مع العلم أنّ المعدّل الطبيعي لعدد الزيارات هو 9 زيارات خلال فترة الحمل، أي زيارة واحدة شهريًا على الأقل. أمّا كلفة الصورة الصوتيّة فتبلغ بالحدّ الأدنى 20 إلى 30 دولارًا، وقد تصل إلى 90 دولارًا. هذا عدا عن التدخّلات اللازمة في فترة الحمل مثل: نزعة الخلاص وفحص الدمّ لتقصّي الموروثات الجنينيّة في دمّ الأم الذي تبلغ كلفته ما بين 400 و 900 دولار تبعًا لدواعي هذا الفحص". ويشير القاق إلى أنّ هذه التكاليف تختلف من منطقة إلى أخرى، ومن مستشفى لآخر، إلّا أن الثابت أن القطاع بمجمله تأثّر بشكل ملحوظ بفعل الأزمة الاقتصاديّة.

ويضيف: "لا يمكن الجزم بمعدلّات عدم الإنجاب في لبنان لغياب الدراسات والأرقام الدقيقة، لكن تبعًا للملاحظات الطبيّة، يمكن القول إن هناك اتجاهًا أكبر لتأجيل الحمل قدر الإمكان على أمل انجلاء الأزمة المخيفة".

تراجعُ زيارات النساء لتلّقي الخدمات المتعلّقة بالحمل والتوليد يُضاف إليه خطر يهدّد صحّتهن وحياتهّن. هذا الخطر يتمثّل في عدم القدرة على الوصول إلى خدمات الرعاية الصحيّة غير الحمليّة لأمراض أكثر تعقيدًا، كسرطان عنق الرحم، وسرطان الثدي والالتهابات النسائيّة، ومشاكل ما بعد انقطاع الدورة الشهريّة.

الأزمة الاقتصاديّة التي كشفت مدى الفوضى التي يغرق فيها لبنان، دفعت بالمقبلين على الزواج إلى إعادة النظر في تخطيطهم للإنجاب. يرى آدم البالغ (35 عامًا)، أن إنجاب طفل في هذه الظروف أمر غير عادل. يسأل: "ما معنى أن أنجب طفلًا في بلدٍ نرى كلّ يوم أن الغدّ فيه أسوأ؟ لمَ أُنجب إنسانًا ليعاني من الحرمان وغياب الأمان وأدنى مقوّمات الحياة؟ البلد أصبح كالسجن؛ كلّ ما نحلم به هو مغادرته". 

ارتفاعٌ في معاملات الطلاق

تشير أرقام المديريّة العامّة للأحوال الشخصيّة إلى تأرجح في عدد معاملات الزواج بين عام 2020 وعام 2022. وكما يُظهر الرسم البياني أعلاه، فإن عدد معاملات الزواج المسجلّة في العام 2020 بلغت 29 ألفًا و493 معاملة، لترتفع في العام 2021 إلى 33 ألفًا و661 معاملة، لتعود وتسجّل في العام 2022 تراجعًا، إذ بلغت 29 ألفًا و770 معاملة.

هذا التراجع في الإقبال على الزواج قابله ارتفاع في حالات الطلاق. فبحسب المصدر عينه، ارتفع عدد معاملات الطلاق في العام 2020 من 6 آلاف و793 معاملة، إلى 7 آلاف و751 معاملة عام 2021، ليستمر في الارتفاع وصولًا إلى 7 آلاف و987 معاملة طلاق عام 2022. 

تُعلّق البروفيسورة في قضايا السكّان، سناء صبّاح، على هذا الارتفاع. "المحاكم الشرعيّة أكدّت ارتفاع حالات الطلاق بسبب المشكلات الزوجيّة الناتجة من الأزمة الاقتصاديّة التي كانت إحدى تبعاتها ارتفاع نسب البطالة. وهذا الارتفاع في معاملات الطلاق سيؤثّر على النمّو السكّاني في السنوات المقبلة". بحسب الصبّاح، سيشهد لبنان تناقصًا في النمّو السكّاني خلال السنوات المقبلة نتيجة انخفاض معدّل الزواج الذي يؤثّر على معدّلات الخصوبة.

فاتن انفصلت أخيرًا عن زوجها بعد زواجٍ دام أربعة أعوام. تقول لـ"أوان": "الخلافات مع طليقي بدأت بعد زواجي بفترة قصيرة، لكنّها زادت حدّةً مع الأزمة الاقتصاديّة". يعمل زوجها سائق أجرة في منطقة النبطيّة، ومع ارتفاع أسعار المحروقات المتواصل والغلاء المعيشي، لم يعد بإمكانه تأمين احتياجات المنزل الأساسيّة وتكاليف الحياة، فازداد الوضع تعقيدًا كما تصف فاتن. "أحمد الله أنّي لم أنجب؛ بالكاد تحملّت صعوبة الحياة مع طليقي، فماذا لو كان هناك أطفال؟ بالتأكيد لا قدرة لنا على تأمين احتياجاتهم من حليب وحفاضات، ولا التخطيط لمستقبلهم الدراسي".

 

توضح أرقام الرسم البياني أعلاه أنّ عدد المهاجرين من لبنان عام 2020 بلغ 17 ألفًا و721، وفي العام 2021 سجّل ارتفاعًا مخيفًا، إذ وصل عدد المهاجرين إلى 79 ألفًا و134 مهاجرًا، لكن العدد عاد وانخفض إلى 42 ألفًا و199 عام 2022.

الهجرة واحدة من مؤشرّات النمّو السكاّني ومن أسباب تراجع معدّل الولادات. ولأن المهاجرين من الفئات الشابّة بشكل خاص، فإن الهجرة الكثيفة تضحي - كما تصفها الصبّاح - "خطرًا وجودّيًا حقيقيًا يؤثّر على معدّل نمّو السكّان، وقد بدأت آثارها بالظهور، إذ نلحظ انخفاضًا في نسبة صغار السن في الفئة العمريّة من 0 إلى 4 سنوات".

هذه الأرقام والمؤشرّات، والهبوط المتواصل لقيمة العملة اللبنانيّة وتداعياتها على المجتمع اللبناني، ما هي إلّا إشارات لعمق الأزمة التي ضربت لبنان، والتي أثرّت على تركيبته الاجتماعيّة والديموغرافية.

* أُنجز هذا التحقيق بدعم من "صندوق الأمم المتحدة للديمقراطية” UNDEF ومنظمة “صحافيون من أجل حقوق الإنسان" Journalists for Human Rights.

مغامرة العلاج النفسي

المواقف التي نتعرّض لها مع بعض المعالجين النفسيين غريبة أحيانًا، وقد تكون مضحكة، لكنّها دون شكّ تترك فينا...

غوى كنعان
ذاكرة من طفولة ودم

يصبح اللجوء المؤقت دائمًا بالنسبة لبعض السوريين. فمَن يُدفن خارج بلاده يُحكم عليه بالبقاء لاجئًا إلى الأب...

غوى كنعان
الانتخابات اللبنانيّة: ما الذي تقوله لنا نسب الاقتراع في الخارج؟

اعتبر مدير المغتربين في وزارة الخارجية اللبنانية السفير هادي هاشم خلال مؤتمر صحافي أن الانتخابات البرلمان...

غوى كنعان

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة