شجر الزيتون يبكي

أيمكن، حقًّا، أن يتكيّف الزيتون مع طقس ألمانيا، ويثمر بعد أجيال؟ أيُمكن للهندسة الوراثية أن تعدّل في جينات الزيتون فأرى كرومه تملأ ألمانيا كما يملأها اللاجئون السوريون؟

في اليوم الأول لوصولي ألمانيا، صحبني المنسّق المسؤول لأشتري الطعام. قال لي: "لا نعرف ما تفضّلين". كان يومًا من أيام الجمعة، وكان عليَّ أن أشتري ما يكفي ليوميّ العطلة التاليين. وبينما كنت أنتقي ما أحتاجه، باغتني السؤال: "ألن تشتري زيت زيتون؟!".

لم يدر في خلدي يومًا أنني سأضطر لشراء زيت الزيتون، بل اعتدتُ، ككثيرين في سوريا، أن أهدي الزيت والزيتون للأصدقاء. وكان من المخجل في قريتنا أن تنفد مؤونة الزيت والزيتون. ولطالما تهكَّمَت صديقتي الحلبية التي هجّرتها الحرب إلى الساحل من فقر سكّان هذا الأخير: "أهل الساحل يطبخون بزيت الزيتون ولا يعرفون الزبدة! أي طعام هذا؟".

عبرت ذاكرتي صفائح الزيت ومرطبانات الزيتون المخلّل المصفوفة في غرفة المعيشة، وكروم الزيتون على جانبي الطريق إلى بيتنا، والإحصاءات الزراعية لأشجار الزيتون وأمراضه التي كانت في صلب عملي الوظيفي في سوريا، ومواسم القطاف وعصر الزيتون. كيف لي أن أختصر تلك الذاكرة برمّتها في زجاجة زيت لا أعرف طعمه بعد، وبمرطبان زيتون لم أخلّله، أنا التي تتفاخر بمذاق زيتونها وجودة زيتها؟ كانت تلك أول غصّة أحاول ابتلاعها، أنا سليلة كروم الزيتون وعنابر الزيت.

في عام 2011، العام الذي بدأت فيه الاحتجاجات والانتفاضة السورية، سألني أحد الأصدقاء الذين همّوا بمغادرة سوريا: "هنادي، هل يمكن أن آخذ معي فسيلة زيتون؟ هل تعيش في الظروف الباردة؟" استنكرت السؤال، وأجبته بسخرية لاذعة: "تركت البلد كلّه، فما الذي ستعنيه لك زيتونة لن تثمر على شرفة أوروبية؟" يا لقسوة العبارة، أفكّر الآن.

في أول زيارة لصديقة في برلين، وجدتُ على شرفتها شجرة مغطاة بقماش غامق، عرفت أنها زيتونة غطّتها من البرد. صديقة أخرى أدخلت الزيتونة إلى صالة البيت. والغريب أنّها كانت مزهرة، إذ سرعان ما تسقط هذه الأزهار ولا تثمر.

صديقتان لاجئتان والزيتون! أيمكن، حقًّا، أن يتكيّف الزيتون مع طقس ألمانيا، ويثمر بعد أجيال؟ أيُمكن للهندسة الوراثية أن تعدّل في جينات الزيتون فأرى كرومه تملأ ألمانيا كما يملأها اللاجئون السوريون؟ هل يمكن للاجئ السوري من الجيل الخامس للجوء أن يغدو ألمانيًا؟ ما مصير الزيتون السوري هنا بعد عقود؟ دار في رأسي ذلك كلّه، وخلصت إلى فكرة واحدة: ربما كانت الزيتونة بديل وطن ضائع.

لعلّ أحد أسباب كره الإسرائيليين لشجرة الزيتون الفلسطينية وقطعهم لها أنّها معمرة، وهي صاحبة الأرض والفلسطينيون ورثتها

يرد ذكر شجرة الزيتون في الكتاب المقدس أول مرة في سفر التكوين، الإصحاح الثامن، حين يرسل نوح حمامة كي تتحقق من انخفاض الماء وظهور اليابسة، فتعود وهي تحمل في منقارها غصن زيتون، ما جعل الزيتون رمزًا للأمل والسلام.

يتكرر ذكر زيت الزيتون وشجرته في الكتاب المقدس، بعهديه القديم والجديد، في 140 موضعًا. ويجيء ذكره أول مرة في سفر الخروج عندما يعطي الله أوامره لموسى قائلًا له: "آمرُ بني إسرائيل بأن يقدّموا زيت الزيتون لإشعال السراج على الدوام".

وورد في العهد الجديد: "لا بد لشجرة الزيتون أن تُطعم وإلا أعطت ثمارًا صغيرة رديئة"، و"لا تقطفوا شجرة الزيتون حتى آخر حبة، بل اتركوا عليها بعض ثمارها ليأكل منها الناس والطيور والحيوانات البرّيّة". وهذا الأمر الأخير هو ما كانت تفعله أمي وسائر أهل القرية، من دون أن يكونوا قد قرأوا. لقد اعتادوا أن يجودوا بزيتهم وزيتونهم، وألا يقطفوا الشجرة حتى آخرها. وبعد أن ننتهي من قطف الشجرة، كان يأتي صِبية يُسمَّون "العفّارين" ليعفّروا الحبّات القليلة الداشرة في الأرض ويقطفوا ما تركناه على الشجر. ما كان ذلك ليزعج أصحاب الكروم، بل كثيرًا ما كان العفّارون معهم جنبًا إلى جنب. ولطالما عفّرنا ونحن صغار، فجمعنا الزيتون وبعناه لدكان الحي لنشتري بثمنه أقلامًا ودفاتر. وكان ذلك دأب الأولاد جميعًا.

يأتي اسم "المسيح" من الممسوح بالزيت. وشجرة الزيتون هي الشجرة التي شهدت آلام المسيح ولحظات نزعه الأخيرة، وبكت عليه. وكان مكانه الأثير هو "جبل الزيتون"، وفيه دُفِن بعد الصلب. ودخل زيت الزيتون في تركيب زيت المارون المقدس الذي يُمسح به الطفل في العمادة. وفي الشعانين يحمل الأطفال أغصان الزيتون تمثيلًا لسياسة اللاعنف التي بشّر بها المسيح، حين استقبلوه استقبال المنتصر في أورشليم، وحملوا في أيديهم أغصان الزيتون.

كلّما ورد ذكر الزيتون في الكتاب المقدّس دلّ على الرخاء والقوة والبركة والازدهار والحكمة. ففي المزمور (128: 3) يبارك الله الرجل والمرأة ويشير إلى الخلود من خلال الأولاد: "وأولادك مثل غروس الزيتون حول مائدتك"، ذلك أنَّ الزيتون شجرة دائمة الاخضرار، خالدة. أما في القرآن الكريم، فيُقسم الله نفسه بشجرة الزيتون: "والتين والزيتون وطور سنين".

تاريخيًا، يقول عالم النبات الفرنسي - السويسري ألفونس دي كاندول، في كتابه "أصل النباتات المزروعة"، إن الفينيقيين هم أول من زرع الزيتون ونشروه في دول البحر المتوسط. وبيّنت بعض الدراسات الأثرية والجيولوجية المبنيّة على ترسّب حبّات الطلع التي تمّت في منطقة إيبلا الواقعة في مدينة إدلب في سوريا، أن أشجار الزيتون كانت موجودة في المنطقة منذ أكثر من 6000 عام. وهي بذلك تُعدّ أقدم شجرة معروفة في العالم، إذ تعيش حوالي 870 عامًا. وقد عُرفت في بيت لحم في فلسطين أقدم وأكبر شجرة زيتون، إذ يُقدَّر عمرها بحوالي خمسة آلاف سنة، ويغطي حجمها أكثر من 250 مترًا مربعًا، أما جذورها فتمتد إلى حوالي 25 مترًا.

ولعلّ هذا هو أحد أسباب كره الإسرائيليين لشجرة الزيتون الفلسطينية وقطعهم لها، ومنع الفلسطينيين من الوصول إلى كرومهم، فهي معمرة شأنها شأن الفلسطينيين، وهي صاحبة الأرض والفلسطينيون ورثتها. ولعلّ هذا السبب ذاته هو ما دفع السلطات التركية إلى الأمر بقطع بساتين كاملة في منطقة عفرين في سوريا في الحرب الحالية، واقتلاع كثير من الأشجار وأخذها لزراعتها في تركيا. فبذلك يكونون قد فعلوا بشجرة الزيتون ما فعلوا بالكرد، أي حاولوا طمس سكان المنطقة ومحوهم من ذاكرتها.

أصبح سعر صفيحة الزيت الواحدة نحو ضعفي مرتب المواطن السوري، أما سعر صفيحة الزيتون فنصف مرتبه

يبدأ قطاف الزيتون عادة في أوائل تشرين الأول/أكتوبر ويستمر، بحسب المناطق، حتى شهر كانون الأول/ديسمبر. وترافق القطاف طقوسٌ جميلة؛ ففي هذا الموسم يجتمع أفراد الأسرة جميعًا، مهما اختلفت مواقعهم ودرجاتهم، لينزلوا إلى البساتين في الصباح الباكر الندي ولا يعودوا إلا مع مغيب الشمس. كنا نقضي شهرًا كاملًا في القطاف، يساعدنا أهل القرى الجبلية العالية التي لا تنمو فيها سوى الصخور الجرداء. كانوا ينامون في بيوتنا، وتقصّ عجائزهنّ الحكايات لنا نحن الأطفال. وكانت أمي تحمل الفطور والغداء إلى الكرم، حيث نفترش التراب ونجلس جميعًا على صينية مدورة، أهم ما فيها الزيتون والزعتر والزيت.

لم تُعرف المعاصر الحديثة في قريتي قبل تسعينيات القرن العشرين. كنا نسلق الزيتون وننشره على الأسطحة حتى يغدو مثل الزبيب، ثم نجمعه في قفف مصنوعة من أعواد الريحان يُطلق على الواحدة منها اسم "القفير"، ونأخذه إلى "الباطوس"، وهذه كلمة سريانية تعني الحجر الدائري، وتحيل إلى حجر كبير محفور على شكل جرن وفي داخله حجر دائري يُدعى "الخريزة"، مثقوب في المنتصف، يوضع فيه ذراع من الخشب لتسهيل تحريكه وتدويره. وعادة ما تُربط نهاية الذراع إلى حمار معصوب العينين يدور ويحرّك الحجر، فيُهرس الزيتون. وكنا صغارًا نمضي النهار في الجري خلف الحمار. يُجمعُ بعد ذلك الزيتون المهروس ويوضع في براميل معدنية ليطفو الزيت فوقه، فنتسابق إلى دهن الخبز بهذا الزيت الرائع الذي يُسمى في قريتنا "زيت سقر". بعدها توضع عجينة الزيتون في أكياس مصنوعة من مادة خشنة ويُطبق عليها وزن ثقيل من الحجارة ليسرح الزيت من تحتها. كان خروج الزيت أشبه بالاحتفال. وربما لا يُعرَف زيت "الخريج" إلا في مناطق الساحل السوري وعلى وجه الخصوص منطقة جبلة، بلونه الغامق جدًا وأسيده المرتفع. ولا تزال بعض المعاصر الحجرية القديمة موجودة في فلسطين إلى الآن.

كان طقس قطاف الزيتون من أحب الطقوس إلى قلبي. كانت أحاديث الزيتون ترافقنا حتى آخر كانون الثاني. وتُعاد وتُكرر في كل عام حتى بعد انتشار المعاصر الحديثة. وكان الزيت والزيتون ولا يزالان من أجمل الهدايا التي يتبادلها البشر. وقلما تجد بيتًا في سوريا لا يضع الزيتون على مائدته في كل وجبة. وفي بيتنا كان اصطفاف مرطبانات الزيتون وصفائح الزيت مبعث طمأنينة لدى الأسرة كلها، ورمزًا للأمن الغذائي: "لن نجوع ما دام لدينا زيت وزيتون". وفي لقاء مع إحدى السيدات بعد الزلزال قالت: "لقد ذهبت مؤونتي كلها (تقصد من الزيت والزيتون), من أين أطعم أولادي؟"

مع استمرار الحرب السورية على مدى اثني عشر عامًا، وخروج مناطق كثيرة عن الخريطة السورية الموحدة، ومع الحرائق التي اندلعت في 2020 واستمرار السلطات التركية وحلفائها بقطع أشجار الزيتون في ريف إدلب، تراجع ترتيب سوريا في إنتاج الزيت عالميًا، وارتفعت كثيرًا أسعار الزيت والزيتون، إذ غدا سعر صفيحة الزيت الواحدة حوالى ضعفي مرتب المواطن السوري، أما سعر صفيحة الزيتون فيبلغ نصف مرتبه. وغدا تأمين هذه المادة حلمًا بالنسبة إلى السوريين الذين يُعد الزيتون مكونًا أساسيًا في غذائهم.

لعلّ قصة الزيتون تشبه قصة السوريين الذين دُمرت بيوتهم واقتُلعوا من أرضهم، وهاموا على وجوههم في أصقاع الأرض. يتكاثر الزيتون بعقل صغيرة، ويمكن أن نأخذ من شجرةٍ آلافَ العقل، كلّ عقلة تغدو شجرة، وكلّ شجرة تغدو كرمًا.

سوف يبقى الزيتون، وسيبقى السوريون كذلك. وسوف أنتظر عودة الحمامة، وفي منقارها الغصن، ليحلّ السلام على تلك الأرض المقدسة.

ليس مجددًا... ليس مجددًا

زرت المتحف اليهودي في برلين. أردتُ أن أعرف كيف يستثمر الإسرائيليون دور الضحية ويعيدون إنتاجه كل مرة، وكيف...

هنادي زرقة
الفرح ليس مهنة الشعراء

كلما خرجت مجموعة شعرية جديدة لي من المطبعة، أفرح ثم أتذكر أن هذه المجموعة صدرت في حين أن سوريين كثر ماتوا...

هنادي زرقة
الياس خوري: صوت الضحية

يعود الياس خوري في كل مرة ليروي تاريخ فلسطين من خلال حكايات متعددة. لا يكتفي برواية واحدة، وكأن الرواية ب...

هنادي زرقة

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة