عبء "الترومات" المتتالية
ما الذي يحدث لنا بعد تلقي صدمات متعددة من الحجم الكبير؟ تظهر الدراسات المتخصصة تأثير "الترومات" المتعددة والمتكررة على تنامي الضيق الشديد في النفس البشرية. فكيف هو الحال اليوم في بلدٍ تعاقبت عليه الكوارث والخضات كسوريا؟
ما الذي يحدث لنا بعد تلقي صدمات متعددة من الحجم الكبير؟ تظهر الدراسات المتخصصة تأثير "الترومات" المتعددة والمتكررة على تنامي الضيق الشديد في النفس البشرية. فكيف هو الحال اليوم في بلدٍ تعاقبت عليه الكوارث والخضات كسوريا؟
كبرنا ونحن نسمع ناظم غزالي يغني: "معلّم على الصدعات قلبي" في جلسات السمر مع الأصدقاء. يشير الغزالي هنا إلى الخيبات العاطفية، رغم أن العبارة تدخل في الحديث الدارج بين الناس للتدليل على تعدد المآسي وتداخلها، وهو ما يحدث كثيرًا في بلادنا. فالأيام الأخيرة التي تلت زلزال 6 شباط/فبراير جعلتنا نتساءل؛ كم "صدعة" تحديدًا يمكن لقلبٍ واحدٍ أن يحتمل؟
"التاء" الصغيرة والكبيرة
في العديد من المقابلات واللقاءات التي أُجريت معه، يشير الطبيب وعالم النفس الهنغاري-الكندي، غابور ماتي (Gabor Maté)، الذي اشتهر بأبحاثه التي تربط بين "التروما (trauma)" والإدمان، إلى حادثة مفصلية في طفولته تركت فيه أثرًا لا يزول، وشكلت فيما بعد ملامح شخصيته كطبيبٍ ناجحٍ، لكنه مدمن على العمل ويصارع الاكتئاب. يعود ماتي إلى تلك اللحظة التي قامت فيها والدته، بينما لم يتجاوز عمره أشهر عدة، بإعطائه إلى شخصٍ غريب لا تعرفه في شوارع هنغاريا خوفًا من اقتيادها إلى معسكرات الاعتقال النازية. الأم بالطبع فعلت ذلك في محاولة لحماية وليدها من المصير الأسود المحتمل، ولتسارع لاستعادته بعد زوال الخطر. لكن ماتي يعي، أو يظن، أن هذا الهجران المُفاجئ الذي تعرض له أيامًا عدة، ومن ثم العودة للعيش والنمو في كنف عائلةٍ مهددة خلال الحرب العالمية الثانية تركت فيه أثرًا لا يزول.
في الحقيقة، يميل علماء النفس لتصنيف الصدمات إلى نوعين؛ "التروما الكبيرة" و"التروما الصغيرة". وهم يقصدون بالصدمات النفسية الكبيرة تلك المرتبطة بالكوارث الطبيعية، والنجاة من حادث سيارة، أو تلك المرتبطة بالتعرض للإساءة الجنسية، أو الاعتداءات أثناء الحروب. فيما تنطوي تحت مظلّة الصدمات الصغيرة أحداث من نوع الخلاف الحاد مع شخص يهمك، أو الطلاق، أو حتى تجربة إنجاب الأطفال.
الآن، وبناء على التصنيف السابق، يلحّ علينا سؤال من قبيل: "إن كانت حادثة هجرٍ لا يعيها تمامًا، تركت في ماتي هذا الأثر الذي يدعيه، فما مصير الذين اختبروا "ترومات" عدة من الحجم الكبير، متبوعة بعددٍ لا يمكن حصره من تلك الصغيرة، وفي فترات الراحة من كلّ ذلك، عاشوا حياة صعبة متعثّرة بصورة لا تطاق؟".
أفريقيا والمآسي المتعددة
حفّز الزلزال الأخير أسئلةً حول التأثيرات المتتالية لصدمات استثنائية على المجتمع السوري. وكان لا بد من الاطلاع على بعض الدراسات التي درست تعاقب الصدمات بدلًا من التركيز على تأثيرات حدث صادم واحد.
في الحقيقة، هناك بالفعل دراسات تتبعت الأثر الذي تتركه الصدمات المتعددة على الشخص والمجتمع، وإن كانت لم تجلب لنا نتائج مُفاجئة أو غير متوقعة. إحدى أبرز هذه الدراسات واحدة أجراها عدد من الباحثين في العام 2007 بهدف فحص مدى انتشار الصدمات المتعددة في جنوب إفريقيا. شملت الدراسة 4,351 شخصًا يعيشون ضمن أسرتهم (مع استثناء من يعيش في السجون أو المستشفيات العقلية أو الجنود في الجيش). وأشارت النتائج إلى أن معظم سكان جنوب إفريقيا عانوا من حدث صادم واحد على الأقل خلال حياتهم، حيث أبلغت غالبية المشاركين في الدراسة عن أحداث عدة، في حين بدا التباين المستمر في المخاطر واضحًا تبعًا للجنس والحالة الاجتماعية.
هناك أشخاص قد يعيشون طيلة حياتهم ويموتون دون أن يعرفوا تشخيصًا أو اسمًا لما يمرّون به ويسمّم حياتهم
لقد أكدت النتائج حقيقة الأثر التراكمي للتعرض للصدمات، فالأفراد الذين يعانون من أكبر عدد من الصدمات (+6) هم أكثر عرضة بخمس مرات لاختبار ما يُعرف بالضيق الشديد مقارنة بمن تعرض لعدد صدمات قليل. وبذلك تؤكد هذه الدراسة على أهمية النظر إلى الأحداث الصادمة في سياق الصدمات الأخرى التي تعيشها الأفراد والمجتمعات.
في حين أكدت دراسة أخرى أجريت عام 2015 أن التعرّض لأحداث صادمة متعددة، خصوصًا في مرحلة الطفولة، يؤدي فيما بعد إلى أعراض أكثر تعقيدًا من تلك التي تظهر بعد التعرض لحدث صادم واحد. فالذين تعرضوا لمجموعة صدمات قد يتلقون مجموعة متنوعة من التشخيصات المختلفة لمشاكلهم النفسية. والتشخيص الخاطئ للحالات الحقيقية يؤدي لا محالة إلى سوء اقتراح العلاجات النافعة، وبالتالي تقليل فرص التعافي الحقيقية من آثر الصدمات.
النمو بعد الصدمة
عند التبحر في القراءة عن اضطرابات ما بعض الصدمة (Post-Traumatic Stress Disorder)، يطالع المرء مصطلح "النمو اللاحق للصدمة (Post-Traumatic Growth)" والذي يشير إلى التأثيرات الإيجابية التي قد تحدث للمرء بعد حدث صادم ضخم. وصّف هذه الظاهرة كل من عالمي النفس ريتشارد تيدتشي ولورنس كالهون في تسعينيات القرن العشرين. حدد الباحثان في ذلك الوقت خمس فئات للنمو قد تحدث بمرور الوقت: كأن يميّز الناجون الفرص الجديدة ويسارعوا إلى اغتنامها، أو يقيموا علاقات أمتن مع أحبائهم ومع الضحايا الذين عانوا بالطريقة نفسها. كذلك يرى الباحثان أن الناجين يستشعرون في دواخلهم قوة داخلية لمعرفتهم أنهم تغلبوا على المصاعب الهائلة، ما يكسبهم تقديرًا أعمق للحياة، وربما يغيّر علاقتهم بالدين والروحانية.
لكن هل هذا الكلام واقعي حقًا، أم أنه محاولات سيكولوجية لدفع الناس لمشاهدة النصف الملآن من الكأس الذي لم ترقه بعد مأساة جديدة؟ الأكيد أن المصائب المتعددة تخلق فهمًا مختلفًا للحياة، فالتصورات حول العالم بعد الكارثة ستتغير أيًا كان منحى هذا التغيّر.
لا علاج بالرقص في سوريا في القريب العاجل
المحبط حقًا عند قراءة الأوراق البحثية حول اضطرابات ما بعد الصدمة ليست المعلومات التي تتنبأ بمضاعفات وتأثيرات هذا النوع من الصدمات. يتوقع الإنسان هنا ظهور حالات القلق والاكتئاب والأفكار الانتحارية والإدمان وفرط النشاط وغيرها من التأثيرات بعيدة الأمد. ولكن ما يبقى إشكاليًا أكثر هو الجزء الذي تفرده الدراسات عادةً لحل المشكلة أو التخفيف من تأثيراتها؛ كالعلاج النفسي الفردي أو العلاج بالرقص أو جماعات الدعم. جميع هذه الحلول، تبدو في سياق مثل السياق السوري، حلولًا وردية وأحيانًا مُهينة بصورة لا تطاق.
مجددًا، ونتيجة تعاقب الأزمات ندرك أن أيًا من هذا لن يحدث، فالدعم والعلاج النفسي سيقتصر فقط على شريحة ضيقة تمتلك المقدرات المادية أو الوعي لطلب الدعم النفسي الضروري. ما يعني أيضًا أن هناك أشخاصًا قد يعيشون طيلة حياتهم ويموتون دون أن يعرفوا تشخيصًا أو اسمًا لما يمرّون به ويسمّم حياتهم نتيجة الصدمات التي عاشوها. ولهذا، تبقى فطرة المجتمع السوري نافذة الضوء الوحيدة ضمن كل هذا السواد. قد يكون هذا المجتمع هو القادر على التصالح مع حقائق الحياة وابتداع وسائل لتخفيف المصاب، لأنه ما يزال مجتمعًا مُحبًّا، مُتعاطفًا ومتضامنًا، خصوصًا بعدما تخلى أخيرًا عن الوهم بأن أحدًا ما سيهبّ لإنقاذه.