"مهمة انتحارية"، هكذا تصف إحدى العاملات الأجنبيات قرار العمل في لبنان بسبب ما تعرضت له من انتهاكات في ظلّ نظام الكفالة، بالإضافة إلى اضطرارها إلى التعامل مع العنصرية المستشرية.
منذ بداية الأزمة الاقتصادية في لبنان، ساء وضع العاملات أكثر مما كان عليه، وتنوّعت الانتهاكات بحقهنّ بين عنف واعتداء واحتجاز وظروف عمل سيئة، وصولًا إلى عدم حصولهنّ على ما جئن إلى لبنان من أجله، أي رواتبهن. وتفيد أرقام "الدولية للمعلومات" للعام 2020 بأن لبنان يستضيف نحو 117 ألف عاملة منزلية مهاجرة، غالبيتهنّ من أفريقيا وآسيا.
خسارة كلّ شيء
عادت شاكيرا إلى وطنها الأم، نيجيريا، بعد تعرّضها إلى سلسلة من الانتهاكات خلال فترة عملها في الخدمة المنزلية في لبنان، من دون أن تُحصّل راتبها مقابل فترة عملها في منزل ن.ف.، والتي امتدت نحو أحد عشر شهرًا لم تدفع خلالها العائلة سوى رواتب أربعة أشهر، تم تخفيض قيمتها من 200 دولار - كما كان متفقًا عليه مع الوكيل في نيجيريا - إلى 170 دولار.
وتحاول شاكيرا منذ عودتها إلى بلدها عام 2020 أن تحصل على مالها عبر جمعية This is Lebanon التي تواصلت مع ربّ العمل للضغط عليه. في البداية، رفض أفراد العائلة التحدث، ثم ادّعوا أن شاكيرا نالت حقوقها كافة، وأنها مدينة لهم لأنها سافرت من دون إكمال فترة العمل التي ينص عليها عقدها، ورفضوا إرسال أي إثبات يفيد بدفع مستحقّاتها.
أمضت شاكيرا عامًا كاملًا في لبنان، ثم سافرت إلى بلدها. لم تقتصر الانتهاكات على حرمانها من راتبها فقط، بل أكثر. إذ تقول في حديثها لـ "أوان" "كنت أعمل في منزلين، منزل الأم وابنتها. لم أحظَ بأي يوم للراحة، وتعرّضت للتحرش من قبل ابن العائلة الشاب الذي حاول لمسي، وكنت أتجنّبه مرارًا".
اليوم، تحاول شاكيرا العمل مجددًا في بلدها لتتمكن من شراء لابتوب وآلة طابعة لتفتح مكتبها الخاص لتصميم الغرافيكس، وهو السبب الذي أتى بها إلى لبنان عام 2019 في الأصل. "عدت إلى بلدي خالية الوفاض. لست مستقرة نفسيًا ولا جسديًا بسبب ما تعرضت له. فقدت كل شيء، ولم أستطع شراء شيء"، تختم حديثها.
"إيغنا ليغنا"
ثلثا العاملات المهاجرات في لبنان تعرّضن للتحرّش الجنسي. هذا ما خلصت إليه الدراسة التي نشرها "معهد دراسات الهجرة" في الجامعة اللبنانية الأميركية بالتعاون مع منظمة Egna Legna للدفاع عن حقوق المهاجرات عام 2022. وكشفت الدراسة التي استطلعت 913 عاملة منزلية في لبنان، أنّ 68% منهنّ تعرّضن لحادثة تحرّش واحدة على الأقلّ. ولجأ أقلّ من ربع الناجيات إلى اتخاذ إجراءات ضد المعتدين، من بينها إبلاغ الشرطة، أو طلب مساعدة سفارات بلادهنّ، أو اللجوء إلى مجموعات دعم العاملات، أو الشكوى لمكتب التوظيف أو أفراد من أسرة المعتدين.
"إيغنا ليغنا"، وهي عبارة إثيوبية تعني "نحن لبعضنا في البلد الغريب"، هو تجمع نسوي يتألف من عاملات مهاجرات سابقات، يعملن على إعادة سيدات من جاليات مختلفة إلى بلدانهنّ، من خلال تقديم المتابعة القانونية اللازمة لحلّ ملفاتهن. وقد ساعد التجمع حتى الآن نحو 700 عاملة مهاجرة من إثيوبيا، والكاميرون، والفلبين، وسيريلانكا، وبنغلادش، على إنجاز ملفاتهنّ للعودة إلى بيوتهن. وترسل الجمعية فريقًا من العاملين فيها مع محامٍ إلى مراكز الشرطة بغرض تسهيل الإفراج عن المعتقلات منهنّ ثم مساعدتهنّ على العودة إلى وطنهنّ.
اعتقالات "استباقيّة"
في مقابلة مع "أوان"، كشفت فرانسيسكا أنكرا، مسؤولة المشاريع في التجمع، أن الشرطة لا تملك أدلة تكفي لإدانة 90% - 95% من العاملات اللواتي يُعتقلن. إذ، في غالبية الحالات، حين تهرب العاملة من منزل كفيلها بسبب سوء المعاملة، يقدّم الأخير شكوى سرقة بحقها فيتم اعتقالها. وتقول أنكرا إن العنف ضد العاملات في لبنان كان موجودًا قبل بداية الأزمة، إذ كنّ يتعرّضن للعنف والتحرش والحبس وحجز المستندات الشخصية. بعضهّن لا يتلقى أجرًا، ومنهنّ من يُمنع من الخروج والراحة أو حتى استخدام الهاتف. كل هذا تحت نظام الكفالة.
وينصّ نظام الكفالة على تحمل الكفيل المسؤولية القانونية عن العاملة خلال فترة التعاقد، ما يجعل وضعها القانوني وسبل عيشها بشكل عام معتمدَين على الكفيل. فلا يجوز للعاملة تغيير صاحب العمل أو كسر شروط العقد ما لم يوقّع الأخير على "صيغة التنازل" لدى كاتب العدل. أما إذا غادرت العاملة دون موافقة الكفيل، فقد تتعرض للاعتقال لأن وضعها يصبح غير قانوني .
روجياتو هي ناجية أخرى تمكّنت من مغادرة لبنان بعد معاناة طويلة. إذ أرادت الالتحاق بالجامعة لدراسة تصميم الأزياء، لكن لم تتمكن من دفع الأقساط. لذلك، نصحتها والدتها بالعمل في الخارج لكسب ما يكفي من المال لمواصلة دراستها، فكان لبنان وجهتها.
اختلاق قصص وإحياء أموات
عملت روجياتو لدى ع.ب. و و.ب. لنحو عشرين شهرًا، بين 2019 و2020، قامت خلالها بتنظيف منزلهما ورعاية أطفالهما الخمسة، فضلًا عن تنظيف ورشة عمل الزوج ومنزل والدَي و.ب. وأختها، رغم أن وزارة العمل تمنع عاملات المنازل من الاشتغال خارج منزل صاحب العمل.
في 19 تشرين الأول 2020، اتصلت روجياتو بجمعية This is Lebanon وشاركت مقطع فيديو يظهر سجلًا دقيقًا لمدفوعات رواتبها. كانت روجياتو قد حصلت على راتبها في الأشهر الأربعة الأولى بمعدل 200 دولار شهريًا بالدولار الأميركي وحوّلت المبلغ إلى بلدها. لكنها خلال الأشهر الستة التالية، حصلت على أجرها بالليرة اللبنانية بعدما بدأت العملة بالانهيار. غير أن و.ب. احتفظت بتلك الأموال، معلّلة الأمر برغبتها بشراء الدولار بها بسعر أفضل، لكنها لم تفعل. وحين اتصلت جمعية "هنا لبنان" بـ ع.ب. (أي الزوج) وطلبت منه منح روجياتو رواتبها المستحقة، قال إنها لا تريد تحويل راتبها بعدما اكتشفت أن والدها استخدم تحويلات الأشهر الأربعة الأولى للزواج مرة أخرى. في الحقيقة، كان والد روجياتو قد توفّي عام 2014.
في صباح يوم 20 تشرين الأول 2020، أصرّت روجياتو على أن يدفع أصحاب العمل لها رواتب الأشهر العشرة المستحقة عن عام 2020، والتي تبلغ قيمتها 2000$، لكنهم نفوا أنهم مدينون لها بشيء. وفي الليلة نفسها، صادروا هاتفها وفقدت الجمعية الاتصال بها. وفي صباح اليوم التالي، اتهموها بسرقة الأموال والمجوهرات من منزلهم. تقول روجياتو لـ "أوان" "لقد فتشوني جيدًا قبل أن يأخذوني إلى المكتب، حتى أنهم جعلوني أخلع ثيابي كلّها ولم يجدوا شيئًا. ورغم ذلك استمروا باتهامي، فطلبت منهم إعادتي إلى مكتب الاستقدام". في المكتب، أُجبرت روجياتو على توقيع ورقة تنص على حصولها على مستحقاتها كافة. ثم نُقلت إلى صاحب عمل جديد، حيث عملت لأكثر من عام، وعادت إلى سيراليون في 4 تشرين الثاني 2021 بعدما دفعت ثمن تذكرة الطيران من مالها الخاص.
هروب أو انتحار
ويستنجد العديد من العاملات بجمعية This is Lebanon عبر التواصل معها من خلال صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي. وقد تلقت الجمعية 1,956 اتصالًا من عاملات، العام الماضي، و14,000 عاملة منذ أن بدأت الجمعية بالاحتفاظ بالسجلات عام 2018.
وتشير باتريسيا، رئيسة قسم الحالات في الجمعية، إلى أن معظم العاملات اللواتي يحضرن إلى لبنان ليست لديهنّ فكرة عن ظروف العمل، ويتم بيعهن كذبة من قبل وكلاء الاستقدام، ثم يأتين ليُصدمن بالواقع. وتؤكد باتريسيا أن ثلاثة من النساء اللواتي تم إرسالهن إلى بلادهن في الأشهر الـ 12 الماضية، تم استعبادهن لمدة عشر سنوات .
وتتهم This is Lebanon الأجهزة المعنيّة في الدولة اللبنانية بالتواطؤ مع مرتكبي الانتهاكات، إذ تتم إعادة الكثير من العاملات من أقسام الشرطة إلى وكلائهنّ أو أصحاب العمل الذين أساؤوا إليهن. وتؤكد باتريسيا أن الجمعية حاولت فتح خط للتواصل مع الأمن العام، حتى تتمكن من التحقيق في حالات الانتهاك التي يتم التبليغ عنها، لكن أحدًا لا يجيب، بل يستمر الأمن العام بمحاولة حجب الموقع الإلكتروني الخاص بالجمعية.
وتضع الدولة اللبنانية العاملات الأجنبيات تحت رحمة نظام الكفالة، فتستثنيهنّ من المادة 7 من قانون العمل، وتحرمهنّ من الحماية التي يحق للعمال والعاملات الآخرين الحصول عليها، بما فيها الحد الأدنى للأجور، والحد الأقصى لساعات العمل، ويوم العطلة الأسبوعية، وأجور العمل الإضافي، وحرية تكوين الجمعيات.
ويؤدي الاستغلال والانتهاكات في ظل نظام الكفالة إلى انتحار العديد من العاملات أو موتهنّ أثناء محاولة الفرار من أصحاب العمل. وقد خلص تحقيق أجرته "هيومن رايتس ووتش" في 2008 إلى وفاة عاملة كلّ أسبوع لأسباب غير طبيعية. ولا تتوفر بحوث وأرقام جديدة واضحة بسبب نقص الإحصاءات الدقيقة، إلا أن وسائل الإعلام تواصل الإبلاغ عن وفيات عاملات منازل في ظروف مماثلة.
عقد عمل موحّد؟
وكانت "منظمة العفو الدولية"، إلى جانب عدد من المنظمات الدولية وحقوق العمال المحلية، قد سعت إلى تحسين وضع العاملات الأجنبيات في لبنان بالتنسيق مع وزارة العمل و"منظمة العمل الدولية". وقد عملت في الآونة الأخيرة في هذا الإطار على إنتاج عقد عمل موحد خاص بالعاملات، والحدّ من نسبة الاقتطاعات المسموح بها من الراتب – الذي يعادل الحد الأدنى للأجور – بحيث لا تتعدّى الـ30%. لكنّ أصحاب مكاتب الاستخدام طعنوا بالمشروع أمام مجلس شورى الدولة، وفي أيلول 2020، حكم المجلس لصالحهم على اعتبار أن القرارين ينطويان على "أضرار جسيمة" بمصالح تلك المكاتب.
وتقول سحر مندور الباحثة في شؤون لبنان في منظمة العفو الدولية إن "الكفالة نظام يعرقل أي تقدم يمكن إحرازه في هذا الملف"، إذ إن النظام محمي من المستفيدين منه، من أصحاب عمل وأصحاب مكاتب". وتضيف أنه تم الطعن بالقرار من دون الالتفات إلى أبسط حقوق الإنسان أو حقوق العمل التي يلتزم لبنان بها. وأشارت إلى وفدًا من "منظمة العفو" و"هيومن رايتس ووتش" زار وزير العمل الحالي مصطفى بيرم للمطالبة بمتابعة ملف العاملات الأجنبيات والدفع باتجاه حقوق أفضل لهن، لكنّه نفى ضلوع وزارة العمل بهذا العقد الموحد، ولم يعد الوفدَ بالعمل على هذا الملف حتى.
وبحسب تقرير نشرته "هيومن رايتس ووتش" عام 2022، وجدت إحدى الدراسات أن نظام الكفالة يدرّ أكثر من 100 مليون دولار أميركي من الإيرادات سنويًا، بينها 57.5 مليون دولار لمكاتب استقدام العاملات. ووفقًا لتقرير صدر عن "منظمة العمل الدولية" عام 2016، يتم توظيف نحو 90% من عاملات المنازل المهاجرات العاملات في لبنان من خلال إحدى المكاتب.
ومنذ بداية الأزمة الاقتصاديّة، لوحظ تقلص عدد العمالة المهاجرة بسبب عدم القدرة على استقدام العمال والعاملات لارتفاع سعر الدولار. وكانت "المفكرة القانونية" قد نشرت إحصاءات الأمن العام عن حركة دخول العمال والعاملات المهاجرات وخروجهم بين 1/1/2020 و 1/1/2022. وتفيد هذه المعلومات بأن عدد الذين غادروا لبنان خلال هذه الفترة بلغ 106,844 عامل وعاملة، فيما لم يدخل إليه خلالها سوى 24,377 عامل وعاملة، ما يعني تقلص العمالة المهاجرة خلال هاتين السنتين بحدود 82,467.
* أُنجز هذا التحقيق بدعم من "صندوق الأمم المتحدة للديمقراطية” UNDEF ومنظمة “صحافيون من أجل حقوق الإنسان" Journalists for Human Rights.