عرّضت الأزمة الاقتصادية في لبنان النساء والفتيات إلى انتهاكات عديدة، من بينها ما يتّصل بحقوقهنّ الجنسيّة والإنجابيّة. تُبيّنُ التقارير والدراسات المنشورة حول هذه الحقوق أن الدولة اللبنانية تتعامل معها، في الغالب، كما لو كانت مجرّد رفاهية يمكن الاستغناء عنها، من دون الالتفات إلى المخاطر التي تسبّبها، والتي قد تؤدي إلى الوفاة أحيانًا. في ظل الأزمة الاقتصادية المتمادية، تتزايد الضغوط على النساء والفتيات في لبنان، فنجد نساءً يتخلّين عن حقهنّ بالإنجاب والأمومة، وأخريات يفقدنَ حقهنّ بالإجهاض الآمن، في ظل قوانين تجرّم خياراتهنّ وأزمة تطيح بما تبقّى لهنّ من خيارات.
"في السابق، كنا نحزن على المرأة التي لا تستطيع إنجاب الأطفال. اليوم، أصبحنا نختار عدم الإنجاب طوعًا. لستُ لا-إنجابية، بل أحلم بأن أصبح أمًا". قررت حنان (27 عامًا) عدم الإنجاب وتركيب اللولب بعد زواجها مباشرةً عام 2022، بسبب الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد. ترى حنان أن الإنجاب أصبح "رفاهية للنساء" في ظل الأوضاع السيئة، ما دفعها إلى اللجوء إلى العقم الاختياري. فتأمين تكاليف الحمل والولادة وتربية الأطفال أصبح عبئًا ثقيلًا يصعبُ تحمّله، مع ارتفاع أسعار الأدوية وتكلفة زيارة الطبيب، في ظل التغيّر اليومي في سعر صرف الدولار وفقدان العملة الوطنية قيمتها. "من الصعب التحكم بغريزة الأمومة، ويصعب أن نختار بأنفسنا أن لا نكون أمهات لأن الأوضاع لا تسمح بذلك. هذا غير عادل. هذا قرار الظروف قبل أن يكون قراري"، تقول حنان.
تتعاون حنان مع زوجها سامي على دفع مصاريف المنزل. برغم ذلك، يكاد راتبهما لا يكفي لتغطية المصاريف حتى منتصف الشهر. وما يزيد صعوبة التفكير بالإنجاب أن حنان تعاني من مشاكل صحية ستجعلها بحاجة إلى أدوية وعناية ومراجعة أكثر في حال قرّرت الحمل. "حتى حين قرّرت وضع اللولب، اضطُررت للانتظار مدّة ثلاثة أشهر حتى تمكّنت من ادخار 70 دولارًا لتأمين سعره"، تقول حنان.
وتلجأ بعض النساء في لبنان إلى تركيب اللولب - وهو جهاز صغير يتم إدخاله في الرحم لمنع الحمل وتدوم فاعليّته نحو خمسة أعوام - بسبب ارتفاع أسعار موانع الحمل، من وسائل وأدوية.
حنان هي واحدة من كثيرات لم يعد بإمكانهنّ الحصول على الرعاية الطبيّة بسبب ارتفاع أسعار الأدوية وتكلفة الزيارة الروتينية للطبيب/ة. فبحسب دراسة أجراها "صندوق الأمم المتحدة للسكان" مع جامعة بيروت العربية عام 2021، تبيّن أن هناك نسبة تتعدى 80% من النساء اللواتي لا يعطين أولويةً للوصول إلى هذه الخدمات. وهذا يشكل خطرًا عليهنّ، خصوصًا الحوامل منهنّ اللواتي يحتجن إلى زيارة الطبيب أقله لأربع مرات خلال فترة الحمل.
ويقول رئيس مجموعة "صحة المرأة العربية"، الطبيب النسائي د. فيصل القاق، في حديثٍ لـ"أوان"، إن هناك تراجعًا ملحوظًا في عدد زيارات النساء الروتينية للعيادات النسائية. كما بات كثير من النساء يلجأن إلى مراكز الرعاية الأولية، حيث كلفة "الكشفية" تكون أقل. ففي العيادات، تبلغ كلفة الكشفية في المناطق الطرفيّة نحو 20$ تشمل الصورة الصوتية، بينما تتراوح في المدن بين 50 و65$.
موانع الحمل والإجهاض غير الآمن
يُظهر تقرير لمؤسسة "تريانغل" المتخصصة في الأبحاث، صدر في أيلول/سبتمبر 2022، ارتفاع التكاليف الطبيّة المرتبطة بممارسة الجنس الآمن، بما في ذلك اختبار الأمراض المنقولة بالاتصال الجنسي، والعلاج، ووسائل منع الحمل. وقد ارتفعت أسعار موانع الحمل الفموية، وفق التقرير، بنحو 750% منذ العام 2019.
يقول أحد الصيادلة إن سعر بعض أدوية منع الحمل - في منتصف آذار/مارس 2023 - يتجاوز 3 ملايين ليرة لبنانية. ويتراوح سعر الدواء بين الأغلى، مثل Ella One. أما سعر فيتامينات الحمل ـ مثل Gravida ـ فيصل إلى 13.5$.
ويؤدي ارتفاع أسعار وسائل منع الحمل إلى الحمل غير المرغوب، ما يؤدي بالتالي إلى ازدياد حالات الإجهاض غير الآمن - في ظل عدم تشريع الإجهاض في لبنان - والتي تتراوح كلفتها بحسب تقرير مؤسسة "تريانغل" بين 500 و700 دولار أميركي كحدٍ أدنى. ولا توجد في لبنان أرقام رسمية حول عدد عمليات الإجهاض غير الآمن. لكن تفيد التقديرات بأن 45 في المئة تقريبًا من حالات الإجهاض غير آمنة عالميًا، وتموت أكثر من 22 ألف امرأة وفتاة سنويًا بسبب الإجهاض غير الآمن، وفق ما أفاد تقرير شامل صدر عام 2018 عن معهد غوتماكر.
"كُنت على وشك الموت"
عادت لينا من دبي إلى لبنان بعد أن اكتشفت أنها حامل، ولم ترغب بإبقاء الجنين، خصوصًا أن حملها كان خارج إطار الزواج، ما قد يعرّضها لوصمة العار وللأذى الجسدي. لم تفلح لينا بإقناع الأطباء بإجراء الإجهاض. تقول: "أحد الأطباء حاول إقناعي بإبقاء الجنين، وعرض أن يأخذ الطفل مني بعد الولادة ". استطاعت لينا أخيرًا، بشكل سري، إجراء عملية الإجهاض. لكن الأمر لم ينتهِ هنا. فبسبب سوء التشخيص، تبيّن لاحقًا أن حملها كان خارج الرحم، ما عرّض حياتها للخطر وأفشل عملية الإجهاض. تقول: "كنت في الأسبوع الخامس من الحمل، متواجدة مع عائلتي. كنت خائفة من اكتشافهم الأمر، كما كنت خائفة من الموت بسبب خطورة الوضع. ولم تكن صعوبة تأمين المال لشراء الأدوية والحقن أقل خطورة". تشرح لينا قائلة إن معظم الأدوية والحقن كان منقطعًا من الصيدليات، وكانت أسعار بعضها جنونية في حال توافرت. بلغت التكاليف التي دفعتها لينا خلال محنتها هذه 1500 دولار.
تراجع نسب الولادات
سجّلت نسبُ الولادات في لبنان انخفاضًا ملحوظًا في الأعوام الأخيرة. فبحسب الباحث محمد شمس الدين، تشير أرقام حديثة لـ"الدولية للمعلومات" إلى انخفاض نسبة الولادات إلى 62,868 عام 2022، بعدما كانت قد بلغت 92,957 عام 2018، ما يعني تراجعًا بنسبة 32,3% في معدل الولادات.
وتعود أسباب هذا الانخفاض، بحسب الدكتور فيصل القاق، إلى عوامل عدّة، منها انتشار جائحة "كوفيد" وارتفاع أرقام هجرة من هم بعمر الإنجاب في لبنان، بالإضافة طبعًا للظروف الاقتصادية الضاغطة على الناس، وما تفرضه عليهم لجهة تأجيل الإنجاب أو الالتزام بعدد محدّد من الأولاد.
ويتخوّف الأطباء من انتشار الأمراض المنقولة جنسيًا بسبب ارتفاع أسعار وسائل الحماية كالواقي الذكري، الذي وصل سعره إلى حوالي 2.5$ للعلبة. إذ يشير د. القاق إلى ازدياد تقبّل العلاقات الجنسية غير المحمية بسبب ارتفاع أسعار الواقي الذكري، بالإضافة إلى غياب الثقافة الجنسية، علمًا بأن غالبيّة الالتهابات الجنسيّة لا عوارض واضحة لها. وقد سجّلت البيانات الرسمية للبرنامج الوطني لمكافحة السيدا، التابع لوزارة الصحة العامّة، تشخيص 223 إصابة جديدة بالفيروس خلال عام 2022، علمًا بأن الغالبية الساحقة من الإصابات (99.55 %) ناتجة من علاقات جنسية غير محميّة.
لا يتوقفُ نبذُ النساء والفتيات وصحّتهن في لبنان هنا. إذ تتفاقم المعاناة لتحول دون حصولهنّ على منتجات النظافة الصحية في فترة حيضهنّ. وقد أكدت منظمة Fe-Male، في دراسة أجرتها عام 2021 بالشراكة مع منظمة PLAN international، أن 87.9% من النساء غيّرن سلوكهن الشرائي لمنتجات الدورة الشهرية بسبب الارتفاع الكبير في أسعارها، في وقتٍ أعربت فيه 76.5% من النساء عن صعوبة وصولهن لمنتجات الدورة الشهرية، بسبب الزيادة الحادة في الأسعار. وقد لجأ عدد منهن إلى استخدام المناديل الورقية ومواد ذات جودة متدنّية وبدائل مثل الجرائد وأقمشة قديمة، أو حتى الإطالة في استخدام الفوطة، وهو ما قد يؤدي إلى أمراض والتهابات.
ترى الناشطة النسوية ومديرة البرامج في منظمة Female - فيمايل، حياة مرشاد، أن أسباب فقر الدورة الشهرية في لبنان تعود إلى عاملين. الأول هو وصمة العار المرتبطة بكل ما هو متعلق بأجساد النساء، مثل الحيض والدورة الشهرية، وهو ما يمنع النساء من الحديث في هذه المواضيع وكذلك من وصولهنّ إلى المعلومات والمستلزمات الكافية. أما الثاني فيتمثل بالأزمة الاقتصادية المتفاقمة، وعدم اعتبار قضايا النساء وصحّتهن الجنسية والإنجابية أولويّة.
وكانت وزارة الاقتصاد قد تجاهلت دعم الفوط الصحية في اللائحة التي أعدّتها عام 2020، ودعمت فيها نحو 300 سلعة "أساسية " من بينها الكاجو! وتتوقع مرشاد أن تكون النسب الخاصة بفقر الدورة الشهرية قد ازدادت، لأن الأزمة في لبنان تفاقمت، وهو ما سينعكس على النساء بأبشع الطرق بطبيعة الحال.
* أُنجز هذا التحقيق بدعم من "صندوق الأمم المتحدة للديمقراطية” UNDEF ومنظمة “صحافيون من أجل حقوق الإنسان" Journalists for Human Rights.