هل تستطيع الاستماع إلى حكاية فردٍ في عصابة وتنحية أفكارك المسبقة جانبًا، أو الاصغاء إلى عاهرة تروي تفاصيل بدايات عملها في الدعارة ومشاعرها تجاه مهنتها دون أن تسارع إلى إدانتها؟ ماذا عن مدمني المخدّرات؟ المجرمين المدانين؟ القوادين؟ وأصحاب التفضيلات الجنسية الخارجة عن المألوف؟ وإن استطعت الاستماع إلى الحكايات القاسية التي يرويها هؤلاء، ما الدروس والقيم التي قد تخرج فيها من كل ذلك؟
قناة للمهمشين
عام 2016، أنشأ المصور الفوتوغرافي الأميركي مارك لايتا قناةً على "يوتيوب" تتضمن لقاءات أجراها مع مشردين، وعاهرات، ومدمني المخدرات، وجنود سابقين، وأفراد عصابات. تحمل القناة اسمًا فريدًا؛ "Soft White Underbelly" الذي يمكن فهمه على مستويين. على المستوى الأول تشبه هذه العبارة مجاز "كعب أخيل"، إذ إنها تعني الجزء الأضعف والأكثر عرضة للهجوم، وهي تأتي - بحسب تعريف لايتا عن قناته - من ونستون تشرتشل الذي نصح الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية بأنّ أفضل طريق لمهاجمة ألمانيا هو عبر إيطاليا، باعتبارها "the soft underbelly of Europe". واليوم، يرى لايتا خللًا في المجتمع الأميركي يتمثل بتلك البقعة الضعيفة. يدل الاسم في معناه الآخر على قدرة الإنسان على كشف أعمق أعماقه، ومشاركة الآخرين أكثر أفكاره غرابة دون خوفٍ من الأحكام المسبقة والإدانة.
طوال السنوات الماضية، تسلل لايتا بشجاعة إلى الأحياء الفقيرة والخطرة في أميركا. هناك كشف المصور النقاب عن حياة الفئات الهشّة والمهمّشة من مجتمع القاع الأميركي، مقدمًا بذلك صورة صادمة عن الأسر الأميركيّة الأكثر فقرًا، المفككة، التي يصارع أبناؤها مع التحرش الجنسي والإدمان والعنف والتهميش.
على مدار السنوات السابقة، نشر لايتا ما يقارب 1,300 مقابلة تتراوح مدة الواحدة منها بين 20 و60 دقيقة. وبرغم أنه يقول في إحدى المقابلات التي أجريت معه حديثًا إنه أنجز ما يقارب 5,000 مقابلة، إلا أنها لم تكن جميعها صالحة للنشر.
كيف تصف طفولتك؟
تبدأ معظم المقابلات في هذه القناة من أسئلة بسيطة مثل: "حدثني عن عائلتك"، أو "كيف تصف طفولتك؟". والمثير في الأمر أن مصير الشخص الناضج الذي نراه أمامنا ومسار حياته يتحدد دائمًا من تلك الجمل المقتضبة المفككة التي يبدأ بقولها عن عائلته وطفولته؛ العنف المنزلي، الفقر، التحرش والاعتداء الجنسي. تلك هي أكثر المقدمات التي تمهد لحياة مضطربة في ما بعد، حياة مليئة بالعنف والإدمان والمرض النفسي.
أثناء مشاهدة المقابلات، لا يسع المرء سوى التوقف عند قدرة المحاور على إفساح المجال أمام ضيوفه لكشف أكثر أفكارهم غرابةً أو شذوذًا عن المألوف، والتعبير عن مشاعرهم دون خوفٍ من الإدانة أو الأحكام المسبقة. فبرغم اختلاف طبائع الضيوف واستعدادهم للكلام، يبقى المحاور قادرًا على تشجيعهم على البوح وإدارة دفّة الحوار، منتقيًا مفرداته بدّقة، بحيث تخلو من أي صبغة سلبيّة، لتتدفق أسئلته غالبًا على النحو التالي: "كيّف أثّر عليك ذلك؟"، أو "هل تستطيع أن تحدثني عن هذه الفترة من حياتك؟"
ويصر المحاور على سؤال ضيوفه عن الدروس التي تعلموها في رحلتهم الصعبة. قد يتساءل البعض عن نوع الدروس التي ستقولها امرأة تعمل في الدعارة أو عضو مافيا سابق أو مدمن هيروين، لكن المفاجأة تكمن في أن هؤلاء الأفراد الأعثر حظًا قادرون على صياغة حِكَم شديدة العمق، فـ"كات" إحدى الفتيات التي اقتيدت للعمل في الدعارة وهي في السادسة عشر، تقول إن أهم درس تعلمته هو أن تثق بحواسها، لأنها، في كل مرة رمت فيها نفسها في ظروف خطرة، كانت تتجاهل الصوت الداخلي الذي ينبئها بأن هناك خطرًا قادم.
أنا لا أعتقد أن حريّة أي شخص في الكوكب باتت مصانة لأنني قتلت إنسانًا
بورتريه لجندي أميركي سابق
في إحدى المقابلات الأكثر إثارة للجدل على القناة، يلتقي لايتا "هاتش" وهو مقاتلٌ أميركيٌ سابقٌ حارب في أفغانستان ومن ثم العراق. يقدم هاتش في بداية المقابلة وصفًا مختصرًا لطفولة مضطربة في أسرة مفككة تعاني من الفقر، ويكتفي بوصف نفسه بالمراهق الغاضب الذي أنهى المدرسة الثانوية ليلتحق بالجيش مباشرةً، إثر موجة "حماسة وطنية" شعر بها بعد تفجيرات 11 أيلول/سبتمبر.
يلخص الشاب بعد سنوات من عودته من العراق تجربته بالقول: "من غير الطبيعي أن تشاهد في بداية عشرينياتك ناسًا يذبح بعضهم بعضًا". فهاتش يصف انقلاب الشباب اليافعين إلى وحوش، ومن ثم توقع عودتهم إلى حالة الشباب اليافعين، كما لو أن الحرب لم تغيّرهم. هكذا، نراه يقارن صورة أصدقائه وهم يحتضنون أفراد عائلاتهم ويقبلون أطفالهم مع صورهم أثناء ارتكابهم أفعالاً مرعبة في الميدان.
أثناء المقابلة، لا يتوقف الشاب عن هز أقدامه في حركة انفعال، ويعبر عن حنقه من جملة مكررة لطالما ترددت على مسامعه هو وغيره من الجنود؛ "فعلت ما كان يتوجب عليك فعله"، فيرد ساخرًا: "أنا لا أعتقد أن حريّة أي شخص في الكوكب باتت مصانة لأنني قتلت إنسانًا".
مع تقدم المقابلة، يوغل هاتش في سرد ذكرياته في العراق وصولًا إلى اللحظة التي قتل فيها بصورة غير متعمدة طفلًا صغيرًا كان مختبئًا وراء الباب لحظة اقتحام فريقه المبنى، فيعترف بأن صورة الطفل المقتول ترافقه وتكبر معه بينما يكبر. تقدم هذه المقابلة من المنظور العربي، نظرة أعمق إلى بنيّة الجيش الأميركي؛ فالأمر هنا لا يتعلق بالتعاطف مع جندي سابق بقدر فهم بنيّة البشر الذي تغذّى عليهم الحلم الأميركي من حيث تركيبتهم النفسية ومستواهم الاقتصادي ونسيجهم الاجتماعي.
هل يجرؤ الإعلام العربي على تقديم مقابلات من هذا النوع؟
واجهت قناة "Soft White Underbelly" منذ انطلاقها الكثير من الانتقاد، والبعض اتهم مؤسسها بأنه يستغل المدمنين والمهمشين، وتساءل آخرون عن جدوى نشر هذه القصص المؤلمة في العلن.
لكن الأسباب التي قد تجعل مضمون هذه القناة مستفزًّا للبعض تتعلق بقدرتها على إجبار متابعيها على رؤية ما يفضلون تجنبه، وسماع ما يريدون صم آذانهم عنه، كما أنها تقدم صورة أكثر عمقًا لأميركا وولاياتها ومدنها وشوارعها المهمشة، فكما قال أحد ضيوف القناة: "كثرٌ لا يعلمون أن هناك ما يشبه بلدان العالم الثالث داخل أميركا نفسها".
من منظور المشاهد العربي، وعند مقارنة المحتوى الذي تنشره هذه القناة بما يقدَم في الإعلام العربي عمومًا، وحتى لدى معظم صانعي المحتوى على "السوشال ميديا"، يبدو الأخير اليوم منشغلًا بالفئات النقيضة لهذه الطبقة المسحوقة، فهناك دائمًا نزوع للقاء الفنانين والمشاهير والأثرياء والناجحين، والتركيّز على الجانب "المُبهج" من حياة المدن العربية.
لكن التعرّض لمضامين إعلامية من هذا النوع يطرح أمامنا أسئلة من قبيل: من هي الفئات التي يراها الإعلام العربي جديرة بالاهتمام؟ هل سيتمكن الإعلاميون العرب يومًا من تنحية أفكارهم المسبقة وإجراء مقابلات من هذا النوع من دون إدانة ضيوفهم وتجريمهم؟ وعلى المقلب الآخر، ماذا سيحدث لو استطاع اللصوص والعاملون في شبكات الدعارة والمدمنون في المجتمع العربي الجلوس أمام عدسة كاميرا لسرد حكاياتهم؟