منذ أن بدأت شركة “ديزني” بإنتاج الرسوم المتحركة، نالت أفلامُها شعبية كبيرة لدى الأطفال. ولكنها، أيضًا، كانت عرضة لانتقادات واسعة، إذ اتُهمت بالعنصرية وبممارسة التنميط تجاه النساء والأعراق أو الثقافات “الأخرى”،كالآسيويين واللاتينيين والعرب والأفارقة. دفعت ردود الفعل تلك “ديزني” إلى محاولة تعديل نهجها في السنوات الأخيرة، وإنتاج أفلام تراعي الحساسيات العرقية والجندرية والسياسية. لكن جدلًا جديدًا بدأ في الآونة الأخيرة، حرّكه فيلم الرسوم المتحركة “Buzz Lightyear” الذي أطلقته الشركة في 17 حزيران/يونيو 2022، إثر منع عرضه في 14 دولة حول العالم بسبب مشهد لقبلة بين شخصيتين أنثويتين احتواه الفيلم، وهو ما اعتبرته السلطات الرقابية في تلك الدول ترويجًا للمثلية الجنسية. لكن شركة “ديزني” رفضت حذف المشهد أو اقتطاعه برغم الانتقادات، معلنة تأييدها لـ”مجتمع الميم”.
Image Credit: Walt Disney Studios
يحكي فيلم ديزني الجديد مغامرات رائد الفضاء “Buzz Lightyear” الذي يعرفه المشاهدون بالعربية باسم “باز يطير” في سلسلة أفلام “قصة لعبة (Toy Story)”. في هذا الفيلم، يذهب باز برفقة قائدته وصديقته أليشا هوثورن لاستكشاف كوكب جديد. لكن الطاقم يكتشف هناك بأن الكوكب مسكون من قوّات معادية، ويقرّر إثر ذاك العودة إلى الأرض. غير أن باز يتسبب دون قصدٍ منه بإتلاف مركبة فريقه الفضائية، ما يضطره وفريقه إلى المكوث على الكوكب الغريب لحين نجاحهم في إصلاحها. وبعيدًا عن الوقوف على الجدل الذي أثاره هذا الفيلم تحديدًا، قد يفيد الانطلاق منه للمرور على الإصدارات الأخيرة لشركة “ديزني”، والتأمل في شخصياتها ومقولاتها والتغيرات التي تحصل فيها بالمقارنة مع الأفلام السابقة.
“Encanto” يستعيد رواية “بيت الأرواح” لإيزابيل الليندي
Image Credit: Walt Disney Studios
يتحدث فيلم “إنكانتو (Encanto)” الذي صدر عام 2021 عن عائلة إسبانية يمتلك أفرادها مقدرات سحرية خاصة، باستثناء الحفيدة “ميرابل” التي تشعر أنها غريبة ومنبوذة. يستمر الأمر على هذا النحو حتى تبدأ المقدرات السحرية للعائلة بالتلاشي، ويقع على عاتق “ميرابل” اكتشاف السر وراء ذلك واستعادة القوة السحرية لعائلتها.
منذ اللقطات الأولى، سيلاحظ من قرأ روايات التشيلية إيزابيل الليندي أن الفيلم أخذ الكثير من تفاصيل روايتها الشهيرة “بيت الأرواح”، تحديدًا في ما يتعلق بشخصية الجدة التي تورّث مقدراتها السحرية لأبنائها، والمنزل الذي لا تكفّ أغراضه عن التحرّك. كما أن “ديزني” اختارت ممثلين من أصول لاتينية لأداء الأصوات في النسخة الأصلية من الفيلم، إذ إن جميع الشخصيات تتحدّث الإنكليزية بلكنة إسبانية.
أما على الصعيد البصري، فإن الفيلم يحمل تأثيرات أفلام سينمائية شهيرة، كفيلم الرسامة التشكيلية فريدا كالو (2002) الذي يتميز بألوانه الصارخة، بحيث يبدو بيت الجدة في فيلم الأطفال شبيهًا إلى حد كبير ببيت الرسامة المكسيكية المعروفة. وبالتالي، يمكن القول إن الفيلم يحمل شحنة بصرية مختلفة على صعيد الألوان والتقنيات الحديثة الموظفة في صناعة الرسوم المتحركة، لكنه، على صعيد المقولات، لا يحمل تغيّرًا يُذكر. فهو يؤكد على أهمية العائلة والحب بين أفرادها، وكذلك قبول المرء لنفسه واحتضان الأشخاص المختلفين والمتمايزين.
“Ron’s Gone Wrong“ التنمّر وإدمان التكنولوجيا
Image Credit: Walt Disney Studios
من جانبه، يعالج فيلم “رون العطلان (Ron’s Gone wrong)” الصادر عام 2021 قضية استبدال الأجيال الجديدة للعلاقات الاجتماعية والصداقات الطبيعية بإدمان التكنولوجيا ومواقع التواصل الاجتماعي. يحكي الفيلم قصة الطفل بارني الذي يواجه مشكلات تتعلق بالتنمر وصعوبات الاندماج، خصوصًا أنه لا يملك الروبوت الحديث الذي يملكه بقية الأطفال في المدرسة. يظن الطفل أن مشكلته حُلّت حين يحصل على الروبوت “روني”، لكن المشكلة تمسي أكثر تعقيدًا حينما يتضح أن روني روبوت معطل ويتصرف بغرابة.
اللافت في هذا الفيلم أن “بارني” ينتمي إلى أسرة روسية مهاجرة إلى أميركا، وجدّته “تكره الشيوعية” وتطهو أطباقًا غريبة تجعل حفيدها أكثر اختلافًا عن غيره من الأطفال. ينتهي الفيلم بتقبل بارني هويتَه كطفل مختلف، وهوية “روني العطلان” المختلف بدوره عن بقية الروبوتات، مع تأكيد الفيلم في النهاية على أن الحياة الافتراضية والآلات لا يمكنها أن تكون بديلًا عن الصداقات البشرية. كذلك تلفتُ المشاهدين اللقطاتُ التي تُظهر حشودًا من الناس من إثنيات مختلفة، فضلًا عن بعض النساء المحجّبات اللواتي يعبرن في بعض المشاهد.
“Raya and the Last Dragon”: الصراع والسلطة والرغبة بالتوسع
Image Credit: Walt Disney Studios
يعالج فيلم “رايا والتنين الأخير (Raya and the Last Dragon)” الصادر أيضًا عام 2021 قضية الصراع على السلطة وسعيَ البشر للهيمنة والتفوّق، عبر الإضاءة على شعب قارة “كوماندرا” التي كانت مزدهرة بفعل سحر التنانين، قبل أن تهاجمها قوى شريرة قضت على التنانين باستثناء واحدة منها، تركّزت قواها في جوهرة. الصراع على هذه الجوهرة يقسّم الشعب الواحد إلى قبائل متنازعة تحاول كل واحدة منها الاستئثار بها. لكن زعيمَ إحدى تلك القبائل وابنته رايا لم يفقدا أملهما بقدرة القبائل على التوحد والتصدي للقوى الشريرة، وبازدهار “كوماندرا” مجددًا بمساعدة التنينة سيسو.
يمتاز هذا الفيلم باحتوائه على مغامراتٍ وتشويقٍ ودرجةٍ من العنف والاقتتال بين شخصياته، لكنّه ينتهي بالتركيز على أهمية الحب والصداقة واستعادة الثقة بالبشر القادرين على تجاوز خلافاتهم وصراعاتهم من أجل بناء عالم أفضل. وفي هذا الفيلم أيضًا، نلاحظ أن “ديزني” اختارت أن يكون الممثلون الذين يؤدّون أصوات الشخصيات من أصول آسيوية.
العنصرية وتنميط النساء
يصعب اليوم قراءة إنتاجات “ديزني” الجديدة هذه وفهم تحولاتها من دون المرور على الانتقادات التي وُجهت للشركة على امتداد العقود السابقة، والتي يمكن تلخيصها تحت عنوانين عريضين: “العنصرية” و”تنميط النساء”.
واجهت “ديزني” اتهامات بالعنصرية والتمييز العرقي الموجّه ضد أصحاب البشرة الملوّنة والآسيويين والعرب وسكان أميركا الأصليين. يقوم العديد من الأفراد أو المؤسسات بالاستفادة مما توفره اليوم منصات التواصل الاجتماعي من أدوات لإنتاج مراجعاتهم وتحليلاتهم النقدية للأفلام عبر الفيديوهات التي تستعرض أشهر اللقطات العنصرية في تاريخ “ديزني”، والتي تشرح دلالات بعض المشاهد والشخصيات التي ظهرت فيها، تحديدًا خلال السنوات الأولى بعد التأسيس.
وقد ركزت بعض الدراسات على ممارسة “ديزني” درجة كبيرة من التنميط ضد النساء. ويرى بعض الباحثين أن الميل العام في أفلام “ديزني” يذهب نحو تصوير الشخصيات الذكورية كشخصيات حازمة وقوية، تمتلك مهارات قيادية، في حين تصوَّر الشخصيات النسائية بوصفها خاضعة وخائفة، تطلب المساعدة دومًا. وتشير بعض الدراسات إلى أن الشخصيات النسائية تمارس سلوكيات سلبية استسلامية وعاجزة، مقابل الشخصيات الذكورية التي تقوم بأفعال نشطة، حتى في الأفلام الحديثة لـ”ديزني”.
وينشغل الإعلام الغربي عمومًا بالحديث عن عنصرية “ديزني” وتنميطها للنساء، كما لو أنها المشكلات الوحيدة في انتاجات هذه الشركة. لكن هناك على ما يبدو مآخذ لا تقل خطورة في ما يتعلق بالقيم التي تروج لها “ديزني”، قلّما تتكون عرضة للنقاش. ففي كتاب “المتلاعبون بالعقول” (عالم المعرفة 1999)، يختصر المؤلف هيربرت أ. شيلر توجهات الأفلام والمجلات والمنشورات الصادرة عن “ديزني” بالقول: “شاهد عالمًا ليس فيه صراع اجتماعي. هناك قدر كبير من العنف، وهناك بعض الرجال الأشرار، إلا أنهم أفراد لا يمثلون تقسيمات اجتماعية ذات أهمية”. وفي الوقت الذي تم تصدير إنتاجات “ديزني” كمضامين “مستقلة عن القيمة”، يجادل بعض الباحثين الذين حللوا أفلام الشركة الأولى بالقول إن منتجاتها روّجت بشكل فاقع قيمًا مثل العنصرية والإمبريالية والجشع والعجرفة.
“ديزني” و”الصوابيّة السياسية”
يلاحظ المتابع لإنتاجات “ديزني” الأخيرة أن الشركة تلتفت للانتقادات الموجهّة ضدها، إذ شهدت السنوات الأخيرة ظهور شخصيات قيادية أنثوية كمولان وموانا، وصولًا إلى أحدث البطلات اللواتي أشرنا إليهن في الأفلام الأخيرة كرايا وميرابل. وبالطبع، لم تكتفِ “ديزني” بتغيير الصفات السلوكية لبطلاتها من النساء، بل غيّرت ألوان بشرتهن وشعرهن، ومقاييس أجسادهن. ورافق كل ذلك تغطية إعلامية تتغنى بالدور الإيجابي الجديد الذي تلعبه “ديزني” في تمكين النساء وتكريس صورة مختلفة عنهن.
ولا يخفى على أي متابع لأفلام الشركة أنها تتصدى أيضًا لاتهامها بالعنصرية عبر تضمين أفلامها الحديثة شخصيات منتقاة تراعي “التمثيل الإعلامي العادل” للفئات المهمشة، كالشخصيات صاحبة البشرة الملونة أو التي تنتمي إلى عرق مختلف أو تمتلك ميولًا جنسية مغايرة. فـ”ديزني” قررت اليوم تصحيح مسارها بصورة شكلانية، وتصدير نفسها كمؤسسة تحترم “الصوابية السياسية political correctness” والتنوع والاختلاف.
لكن كيف يتم هذا التمثيل حقًا؟ وهل يكفي مثلًا وضع شخصيات من إثنيات وجنسيات مختلفة كي يقال إن “ديزني” نقلت صوت هذه الفئات ومثّلتهم إعلاميًا؟
بالطبع، الإجابة على سؤال كهذا تحتاج إلى دراسات معمقة. لكن يمكن التمهيد لها عبر تأمل المشكلات التي تتصدى لها أفلام “ديزني” الأخيرة، كالتنمر وصعوبة الاندماج. وقد يشكل التنمّر والعجز عن الاندماج إحدى المشكلات الكبيرة التي تواجه الأطفال، وثمة بالتالي ما يبرّر تكرار التطرّق لها عبر أفلام “ديزني”. لكن الشركة تتعامل مع هذه المشكلة بنوع من التسطيح، وهي غالبًا ما تقدم حلولًا فضفاضة وطوباوية، لمشكلة معقّدة، بحيث لا تساعد الطفل على تفكيكها وطرح الأسئلة التي تعينه حقًا على تجاوزها.
بهذا المعنى، قد لا تختلف إنتاجات “ديزني” عن انتاجات “هوليود”، التي كثيرًا ما رفعت شعار “كن نفسك (Be yourself)”، فيما اللافت في أفلامها أنها لا تسمح لشخصياتها في العمق بأن تعبّر عن هوياتها المختلفة. فبرغم اختلاف ألوان البشرة واللكنات وأشكال الأجساد، إلا أن جميع الشخصيات تفكّر بطريقة مشابهة، وتكاد تواجه المشكلات نفسها وتصل إلى الاستنتاجات والحلول ذاتها. فـ”ديزني” اليوم تتعامل مع الإثنيات المختلفة كقطع ديكور أو كإضافات بصرية، من دون أن تعكس بعمق المنطق المختلف للشخصيات. كما أن الفقر ما زال عاملًا شبه غائب في أفلام الشركة، وكذلك الكثير من الصراعات الواقعية التي ترتبط بعالمنا المعاصر. فالشخصية الفقيرة الأبرز في تاريخ “ديزني” قد تكون ساندريلا التي عانت من قسوة زوجة الأب، أكثر مما عانت من الفقر نفسه. من هنا، تبدو “ديزني” كمن يرى أن الصراع الوحيد الذي يعاني منه أطفال هذا العالم هو ذاك الذي يتصل بحاجتهم إلى “القبول بهوياتهم المختلفة”. أما كلّ ما عدا ذلك، فهو “تمام التمام”.