"دولة الخلافة" بين التنظيم العقائدي والانتقامي

معضلة الصيغة الداعشيّة تكمن بالدرجة الأساس في مقاربة التنظيم الانتقامية من النظم القائمة، بحيث لم يعُر كثير اهتمام بالبيئة السياسية المحيطة، ولا بحسابات المكاسب والخسائر، ولا بتوازنات القوى الدولية أو العسكرية على الأرض.

تنظيم "دولة الخلافة الإسلامية" كما يُطلق على نفسه، أو تنظيم "داعش" كما عرفه العالم، مثالٌ لحجم التحوّل الذي عرفته جماعات التطرّف العنيف في العالمين العربي والإسلامي. فمنذ الإعلان عن تأسيس التنظيم في 29 حزيران/يونيو 2014، وتسمية أبوبكر البغدادي زعيمًا له و"خليفة للمسلمين في كل مكان"، سيطر التنظيم على رقعة واسعة من الأرض في العراق وسوريا، قبل أن يفقدها مرة أخرى وتعود القوات الحكومية في سوريا والعراق للسيطرة عليها. والحقيقة أن السؤال المتعلّق بتصنيف "تنظيم الدولة" على خريطة جماعات التطرّف العنيف إنما هو سؤال معقّد، فـ"داعش" ليس امتدادًا للتنظيمات الجهادية المحلية وتحديدًا تنظيمي "الجهاد" و"الجماعة الإسلامية" في مصر، و"الجماعة الإسلامية" المقاتلة في الجزائر، وسائر جماعات السلفيّة الجهاديّة، برغم أن كثيرًا من أعضاء هذه التنظيمات كانوا وقودًا لـ"القاعدة" ثم لـ"داعش" نفسه. كما أن هذا التنظيم أسّس بنية عقائدية وتنظيمية تختلف عن البنية الخاصة بـ"الجهاديين المحليين"، وكذلك عن تلك الخاصة بـ"القاعدة"، حتى تحوّل في النهاية إلى حالة دموية وانتقامية غير مسبوقة.

"المانيفستو" العقائدي

يمكن القول إن كتاب "الفريضة الغائبة" لمحمد عبد السلام فرج (أُعدم في قضية اغتيال الرئيس السادات) وكتاب "إدارة التوحش" لأبي بكر ناجي، أحد الأعضاء السابقين في تنظيم "القاعدة" قبل انتقاله إلى "داعش"، يشكّلان "مانيفستو" لتنظيمين مختلفين، الأول هو تنظيم "الجهاد" المحلي في مصر، والثاني هو تنظيم "داعش" "المُعَولم". وقد اتضح منذ السطور الأولى من وثيقة "الفريضة الغائبة" أن الأخير كتاب يحمل هدفًا سياسيًا واضحًا يقوم على تكفير النظام القائم وضرورة إسقاطه بالعنف. صحيحٌ أنه اعتمد على تفسيرات فقهيّة للوصول إلى تلك النتيجة، لكنه لم يكتف بالتوصيفات الدينية لهؤلاء الحكام، بل اشتبك معهم، ونعتهم بتوصيفات سياسية توسّع من دائرة خصومهم، أي أن الوثيقة وضعت تكفيرهم الديني في قالب سياسي، كما في قولها إن "حكّام هذا العصر في ردّة عن الإسلام، تربّوا على موائد الاستعمار، سواء الصليبية أو الشيوعية أو الصهيونية - فهم لا يحملون من الإسلام إلا الأسماء وإن صلّى وصام وأدعى أنه مسلم". وتعود الوثيقة إلى ما ذكره ابن تيمية في هذا الشأن بالقول "إنه استقرت السنّة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي من وجوه متعددة، منها أن المرتد يُقتل، وإن كان عاجزًا عن القتال بخلاف الكافر الأصلي الذي ليس هو من أهل القتال، فإنه لا يُقتل عند أكثر العلماء". وبرغم ان "الفريضة الغائبة" كفّرت معظم حكام المسلمين، ودعت إلى إسقاطهم بالقوة، إلا إنها، على عكس "إدارة التوحش"، لم تتضمن أي خطط عسكرية لمواجهه هذه النظم، ولم تتحدث عن الجيوش ولا عن كيفية استنزافها أو مواجهتها، ولا أبرزت تكتيكات عسكرية في سبيل ذلك كما هو الحال في "إدارة التوحش". وقد كَتب وثيقة "إدارة التوحش" أحدُ قادة تنظيم "القاعدة" السابقين، وهو أبو بكر ناجي، واعتُبر الكتابُ أحدَ أبرز الوثائق المُعتمدة بشكل واسع داخل التنظيم. ولعلّه من اللافت في تاريخ التنظيمات الإسلامية المتشددة وضعُ فصل تمهيدي حمل عنوان "النظام الذي يدير العالم منذ حقبة سايكس - بيكو"، وهذا على خلاف كل مقدّمات كتب جماعات التطرّف العنيف الأخرى، التي انطلقت بالكامل من مسائل فقهية، خصوصًا ميثاق العمل الإسلامي، وكذلك، وإن بدرجة أقلّ حتمية، المواجهة والفريضة الغائبة.

تكمن معضلة الصيغة الداعشيّة بالدرجة الأساس في مقاربة التنظيم الانتقامية من النظم القائمة، بحيث لم يُعر كثير اهتمام بالبيئة السياسية المحيطة

وقد حضرت السياسة بشكل واضح في "إدارة التوحش"، برغم أنها بدت في الوقت نفسه كما لو كانت عالمًا آخر بعيدًا عن الأمور العقائدية والشرعية. صحيح أن الكاتب تعاطى مع السياسة، ضمنًا، كما لو كانت نوعًا من "النجاسة"، إلا أنه قبِل الاستفادة منها والتعامل معها من بعيد، من دون أن يخلط بينها وبين السياسة الشرعية. ويرغم وحشية تنظيم "داعش" وخروجه حتى عن الأدبيات الفقهيّة المتشددة لكلّ من تنظيمي "الجهاد" و"الجماعة الإسلامية"، سوءا في مساحة التكفير أو درء الصائل، إلا أنه تميّز بتقديمه صيغة تلفيقية لجهة ربط التشدّد والتطرف العنيف الذي يتبناه على المستوي العقائدي، بالانفتاح على أنماط الإدارة الحديثة، حتى لو حاول أن يطوّعها لمصلحة بيئته ومشروعه العقائدي.

إدارة من نوع خاص

برغم هذا "الانفتاح" الداعشي على علم الإدارة، إلا إن المدن التي أدارها التنظيم شهدت قهرًا واستبدادًا فاق ما تقوم به النُظم التي واجهها، وأصبح كل ما جاء في كتاباته عن فنّ الإدارة مجرّد توظيف شكليّ للعلوم الحديثة، لم ينعكس في شكل بناء الدولة الوهمية التي سعى إليها، وظلّ الخوف وأعمال القتل والتعذيب وسواها من أشكال العنف أدوات الإدارة الرئيسة في المناطق التي سيطر عليها. والحقيقة أن مساحة "التصديق الغيبيّ" بالنسبة لتنظيم "داعش"، هي ما دفعته إلى الدخول في مواجهات حربيّة خاسرة طوال السنوات السابقة، إذ كاد أن يغيب عن هذه المساحة تفاعلُ التنظيم العمليّ مع الواقعين السياسي والاجتماعي المحيط. وفي سياق ضمور هذا التفاعل، أعطى التنظيم أولويّة قصوى للقادة العسكريين الفاعلين في ميادين القتال، خصوصًا في المدن التي سيطر عليها في سوريا والعراق، بحيث باتت الإدارة السياسية مركّزة بشكل أساسي في أيدي القادة العسكريين ومساعديهم. وتفيد هنا الإشارة إلى أن تنظيمات التطرف العنيف السابقة، خصوصًا المحلية منها، لم تعرف هذا التمييز بين السياسي والعسكري. وقد أكد كتاب "إدارة التوحش" على اعتماد "داعش" تكتيكات عسكرية احترافية، لكنه لم يتبنّ رؤىً قائمة على توازن القوى وحساب المكاسب والخسائر. فعلى سبيل المثال، أصرّ التنظيم على الترويج لرواية تفيد بضعف الجندي الغربي، الأميركي على وجه الخصوص، وهو ما انعكس على أدائه العام لجهة عدم الاهتمام بنتائج المواجهات، وكان ذلك بغرض رفع معنويات عناصره أثناء خوضهم معارك، أغلبها غير متكافئ. ويدلّ الخطاب الإعلامي لـ"داعش"، كما جاء في موقع "النبأ" الناطق باسمه، على أنّ التنظيم أعلن الحرب على الجميع، نُظمًا حاكمة وشعوبًا، مسلمين ومسيحيين، سنة وشيعة، وفي الوقت نفسه راح يبثّ روحًا حماسيّة في صفوف أعضائه، معتمدًا خطاب تحريض وكراهية، ليدخلهم في معارك خاسرة، محسومة نتائجها سلفًا. وهو بالتالي لم يعمل على تحييد خصومٍ ليحارب أعداء، أو على التحالف مع البعض لمواجهة البعض الآخر، بل قاتل الجميع وصوًلا إلى هزيمة مؤكدة. وقد توسّع "داعش" في التكفير واستحلال الدماء، شاملًا "الصحوات" و"الحشد الشعبي" و"الحشد العشائري" و"حزب البعث" في العراق، كما كفّر الفصائل المسلّحة في سوريا قاطبة، بينها فصائل التطرّف العنيف الأخرى كـ"جبهة النصرة"، واصفًا تنظيم "القاعدة" بـ"شياطين الجهاد". ولم تسلم منه الأنظمة العربية - بما فيها الخليجية - والنظامين التركي والإيراني ولا "الحوثيين" في اليمن، ولا حركتي "عسكر الإسلام" و"طالبان" في أفغاستان، والـ PKK الكردي بطبيعة الحال. بل لم ينجُ القيادي الفلسطيني الراحل أحمد ياسين، مؤسّس "حماس"، من التكفير بدعوى قبوله الديمقراطية. ولعلّه من الصواب القول إن معضلة الصيغة الداعشيّة تكمن بالدرجة الأساس في مقاربة التنظيم الانتقامية من النظم القائمة، بحيث لم يعُر كثير اهتمام بالبيئة السياسية المحيطة، ولا بحسابات المكاسب والخسائر، ولا بتوازنات القوى الدولية أو العسكرية على الأرض. ولأن بنية "داعش" ثأريةً بالأساس، فإن التنظيم لم يقدِم على أيّ مراجعة فقهية أو سياسية في أعقاب هزائمه العسكريّة في سوريا والعراق، بل انتقل إلى مساحة جديدة من الحركة، تخلّى بموجبها عن سياسة السيطرة على المدن، وعاد إثرها إلى الذوبان بين المدنيين، وإلى تفعيل استراتيجية "الخلايا النائمة". ستبقى حالة "داعش" فكرةً حاضرةً للكثير من المهمشين في العالم، حتى لو سقطت "دولة الخلافة" التي روّج التنظيم لها. غير أن الحالة ستظلّ قائمة على فعل الانتقام السياسي أو الاجتماعي/الطائفي المغلّف بقشرة عقائدية دينيّة، بحيث تأتي الأخيرة لإضفاء شرعية على عمليات القتل، فيما تبقى دوافع القتل سياسيةً واجتماعيّةً بالدرجة الأساس. 

كيف وصلنا إلى 7 أكتوبر؟

ليس السؤال متمحورًا حول دعم 7 أكتوبر أو إدانتها، بل هل كان المشروع الإسرائيلي يسير في اتجاه حل سلمي، وجا...

عمرو الشوبكي
"كورونا" الكاشفة

كشف "كورونا" عن وجود تيار رسمي ينطلق من فرضية أن "الشعب جاهل" وأن الحكومة تقوم بالجهود الممكنة كافة في مو...

عمرو الشوبكي
احتجاجات مصر بين العلنيّ والمخفيّ                                                   

الوضع الحالي يمثّل استثناء في تاريخ مصر المعاصر، بحيث يغيب الوسيط السياسي أيًا كان شكله، أو الوسيط الأهلي...

عمرو الشوبكي

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة