البحر كملاذٍ للهاربين: عن الهجرة غير النظاميّة من لبنان

تعيد حادثة غرق مركب يقلّ مهاجرين غير نظاميين قبالة سواحل طرابلس إلى الأذهان ظاهرة ليست جديدة، راح نطاقها يتّسع إثر اندلاع الحرب في سوريا، ثمّ تضخّم بشكل كبير مع بداية الأزمة الماليّة والاقتصاديّة اللبنانية. هذه مراجعة للبيانات والأرقام الخاصة بالهجرة غير النظامية من لبنان خلال الأعوام الثلاثة عشر الأخيرة.

"كنتُ ذاهبًا لتأمين مستقبل لأولادي، بما أن الأمن غائب هنا"، هكذا قال أحد الناجين من حادثة غرق المركب مقابل طرابلس الأسبوع الماضي لمراسلة أحد التلفزيونات. فُجع الرجل بموت ثلاثة من أولاده غرقًا أثناء محاولة الهرب "التي يسمّونها رحلة موت"، بحسب قوله، فيما كان هو يعتبرها فرصة لبناء مستقبل مختلف. يرى هذا الناجي أنّ الرحلة تلك كانت السبيل الوحيد للعيش بكرامة. يقول إنه وعد أولاده بـ"حياة جديدة"، قبل أن يخسرهم دفعة واحدة وهم في مقتبل العمر؛ 8 سنوات، و5 سنوات، و40 يومًا. "لم أعد بحاجة لتأمين مستقبلهم، لقد أصبحوا شهداء"، يضيف متحسّرًا.  لا يعيد هذا الناجي سبب محاولته الهروب من لبنان، للمرّة الثانية، إلى الفقر فقط، بل إلى انعدام الأمان في البلد: "من الممكن أن يموت أولادي بحادث سيّارة، أو برصاص، أو نتيجة فقدان الدواء، أو المرض". وفي مقابلة أخرى بعد إسعافه، تسأله المراسلة عمّا إذا كان سيحاول الهرب مرّة ثالثة، فيجيبها: "ثالثة ورابعة وخامسة وعاشرة، أنا لا أستطيع العيش في البلد إن هم (الزعماء السياسيّون) عاشوا فيه، يا نحنا بدنا نهاجر، يا هنّي بدّن يفلّوا".

الهجرة غير النظامية إلى ازدياد

صُدم لبنان قبل نحو أسبوع، في 23 نيسان 2022، بحادث غرق زورق أمام الميناء في طرابلس، كان على متنه أكثر من 60 شخصًا (بعض التقديرات الأمنية أفادت بأن العدد تجاوز الـ80)، أُنقذ منهم 45، وتوفيّ 8 على الأقلّ، فيما لا يزال عدد غير مؤكد في عداد المفقودين. ولم ينقضِِ أسبوع على هذه الحادثة، حتّى أعلن الجيش في 28 نيسان عن توقيف 5 مهرّبين كانوا يجّهزون لتهريب 85 شخصًا على متن مركب "قاموا بشرائه وتجهيزه وصيانته باستعمال مبلغ ماليّ جمعوه من هؤلاء الأشخاص (400 ألف دولار أميركي تقريبًا)". تعيد هذه الحوادث إلى الأذهان ظاهرة الهجرة عبر مراكب وزوارق وقوارب من شمال لبنان، بطريقة غير نظاميّة، وهي ليست ظاهرة جديدة، لكنّ نطاقها اتسع مع بداية الأزمة الماليّة والاقتصاديّة الخانقة التي يشهدها لبنان، ومع ظهور النتائج المترتّبة عليها. لا تُذكر هذه الظاهرة إلّا عند وقوع حوادث كالتي حصلت منذ أيّام، في حين تشير الإحصاءات المتوافرة إلى عدد رحلات كبير من هذا النوع انطلق من شمال لبنان نحو قبرص أو أوروبّا. إذ تنقل منظّمة "اليونسيف" معلوماتٍ تفيد بأنّ الفترة الممتدّة بين شهري تمّوز وأيلول 2020 فقط، شهدت 21 رحلة من لبنان إلى قبرص ضمّت أشخاصًا من الجنسيّة السوريّة بشكل أساسيّ، بالإضافة إلى لبنانيّين، وعمّال مهاجرين. وقد أخذ الحديث عن هذه الهجرة يتكرّر مع بدء النزوح السوريّ إلى لبنان عام 2011، وزاد مع بداية الأزمة الاقتصادية في لبنان أي مع نهاية العام 2019، ما دفع بقبرص مثلًا إلى إرسال وفد إلى بيروت للبحث في مسألة وصول مراكب إليها منطلقة من شواطئه عام 2020. 
لا يُعرف مصير الأشخاص الموقوفين، ولا ما خلصت إليه التحقيقات، وما إذا كانوا قد شرعوا بمحاولة الهرب من الحياة في لبنان مجددًا
وأظهر تقرير لـ"مفوضيّة اللاجئين" أن عام 2021 شهد مغادرة 38 قاربًا الشواطىء اللبنانيّة تضمّ 1570 شخصًا، معظمهم من الجنسيّة السوريّة فضلًا عن 186 لبنانيًّا، نجحت 9 منها في الوصول إلى وجهتها، وفشلت المحاولات الباقية. ووفق التقارير والبيانات التي نشرها كل من الجيش وشعبة المعلومات في قوى الأمن الداخليّ، تنشط هذه الهجرة في الفترات التي تسمح فيها أحوال الطقس بالرحلات البحريّة، أي قبل قدوم فصل الشتاء أو بعد انقضائه. وتُظهر هذه التقارير عمليّات الهجرة التي اكتشفتها أو أحبطتها تلك القوّات، أو تلك التي تعرّضت للغرق أو شهدت تعطّل المراكب.  في الأعوام 2017 و2018 و2019، تفيد بيانات الجيش وشعبة المعلومات عن توقيف 7 رحلات كانت متوجّهة من شواطىء في شمال لبنان: أنفة، وعكّار، وطرابلس، والقلمون، والعبدة، وشكّا. وقد أوقف في هذه الرحلات الأشخاص الذين حاولوا الهرب من لبنان: 32 شخصًا في العام 2017، و135 شخصًا في العام 2018 توفيّ منهم طفل، و49 شخصًا في العام 2019.  وفي العام 2020، تُظهر البيانات إيقاف 6 رحلات بين شهري آب وتشرين الأوّل، كان على متنها 86 شخصًا من الجنسيّات اللبنانيّة والسوريّة من بينهم رجال وأطفال ونساء، إضافة إلى 6 أشخاص من الجنسيّة المصريّة، أوقفوا على خلفيّة شروعهم بالرحيل إلى إيطاليا عبر البحر، وأوقفت هذه الرحلات على شواطىء الشمال اللبنانيّ بين أنفة وطرابلس.
وكان العام 2020 قد بدأ يشهد تجلّي الأزمة الماليّة، التي ظهرت مع ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركيّ أمام الليرة اللبنانيّة من 1500 ليرة إلى أكثر من 30 ألف ليرة مع نهاية العام 2021. ورافق ذلك ارتفاع كبير في الأسعار، وتخلّل تلك الفترة انقطاع متكرّر لمادّتي البنزين والمازوت وتضخم كبير في أسعارهما، إضافة إلى ارتفاع أسعار الدواء وانقطاع بعضه، ومن بين ذلك أدوية الأمراض المزمنة كالسرطان. ومع أيّ أزمة ماليّة، تزداد نسب انعدام الأمان وحالات السرقة والفوضى. كلّ هذا شكّل عبئا إضافيّا على الفئات المتضرّرة أصلًا، أي العائلات الأكثر فقرًا واللاجئين والنازحين. 
يفسّر هذا بطبيعة الحال ازدياد أعداد المهاجرين غير النظاميّين الذين اعترضتهم قوّات الأمن، وبالتالي ازدياد عدد الرحلات بشكل عام. ووفق البيانات الصادرة عن الجيش وشعبة المعلومات، تم إيقاف 6 رحلات انطلقت من شواطىء طرابلس والقلمون بين أيّار وتشرين الثاني 2021، على متنها 229 شخصًا معظمهم من الجنسيّة السوريّة، بالإضافة إلى آخرين من اللبنانيّين والفلسطينيّين، بينهم أطفال ونساء، وتعرّضت الرحلات الستّ إلى الغرق أو الإحباط أو التعطّل. 
لا عدد واضحًا للناجين من مجموع المهاجرين الذين وصلوا إلى وجهتهم، فمنهم من أعادته سلطات البلاد التي وصلوها كقبرص، ومنهم من وجد له حياة فيها. لكنّ عدد الضحايا المعروف، منذ بداية تسجيل حوادث الهجرة غير النظاميّة عام 2009، حتّى العام 2020، بلغ 51 ضحيّة وفق تقرير لـ"الدوليّة للمعلومات": 4 ضحايا عام 2009؛ و27 ضحيّة عام 2013؛ 9 ضحايا عام 2015؛ ضحيّة (طفل) في العام 2018، و10 ضحايا في العام 2020. يضاف إليهم ضحايا الحادثة الأخيرة، التي ما زال البحث عن مفقوديها جاريًا حتّى الآن. 
وإضافة إلى الحادثة الأخيرة، أوقف الجيش مركبًا مقابل شاطىء العريضة أواخر شهر نيسان الماضي أيضًا، كان على متنه 20 شخصًا من الجنسيّة السوريّة، وتم توقيف رحلة كانت ستقلّ 85 شخصًا، ليصل عدد من أوقفت رحلاتهم إلى 185 شخصًا خلال هذا الشهر فقط. والجدير ذكره أنّ هويّة المهرّبين تبقى مجهولة دائمًا، حتّى حين يُذكرون في بيانات القوى الأمنيّة في لبنان، التي تكتفي بإشارتها إلى توقيف بعضهم، وإلى المبالغ التي يدفعها المهاجرون لهم، والتي قد تتراوح بين بضعة ملايين ليرة لبنانيّة و2500 دولار أميركيّ. ولا يُعرف مصير الأشخاص الموقوفين، ولا ما خلصت إليه التحقيقات، وما إذا كانوا قد شرعوا بمحاولة الهرب من الحياة في لبنان مرّة الثانيّة أو عاشرة على حدّ تعبير أحد الناجين من حادثة الغرق الأخيرة. على أن الواضح أنّ حالات الهجرة غير النظاميّة في ازدياد، وأنها مرشحة للاستمرار على هذا النحو توازيًا مع نزيف البلد المتمادي.   * أُنجز هذا التحقيق بدعم من “صندوق الأمم المتحدة للديمقراطية” UNDEF ومنظمة “صحافيون من أجل حقوق الإنسان” Journalists for Human Rights.
التعليم الرسمي في لبنان: عن كفاح أساتذة وطلبة

دفع اشتداد الأزمة على صعيد تأمين الحاجات الحياتيّة الأساسيّة عائلات كثيرة إلى إيقاف تعلّم أبنائهم، وأحيان...

ماهر الخشن
كوميديا سوداء

خروجي من لبنان غير ممكن إلا في حالتين: إقامة "مكسورة" (وجودٌ غير شرعي) أو الدخول خلسةً إلى لبنان (دخول غي...

ماهر الخشن
حرب إسرائيل ضد المحكمة الجنائية الدولية

تتعرّض المحكمة الجنائية الدولية الناظرة في جرائم الحرب على غزة إلى ضغوط مختلفة، نستعرض أبرزها في هذا التق...

ماهر الخشن

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة