"سبيستون": أثر ونوستالجيا

غمرتني حالة "نوستالجيا" هائلة فيما أتابع احتفال قناة "سبيستون" بالذكرى الثانية والعشرين لانطلاقتها. علت من التلفزيون أغنية "تخيلوا أن الكون لا طعم له أو لون، أو أن التلفزيون من غير سبيستون"، ما جعلني آخذ السؤال على محمل الجدّ، وأفكّر حقيقةً: ماذا لو كان التلفزيون من غير سبيستون فعلًا؟

العودة بالزمن إلى الماضي حلم يراود البشر على الدوام، وبرغم استحالة تحقيقه – عمليًا حتى اليوم على الأقل – إلا أن التلفزيون يمنحنا شعورًا بالقدرة على العودة إلى أيام خلت، فيما نحن نضغط على أزرار جهاز التحكم عن بعد متنقّلين من قناة إلى أخرى. هكذا أجد نفسي، بينما أتابع الأخبار والمستجدات حول العالم، أزور قناة "سبيستون" كلّ فينه، علّني أشاهد فقرة كانت تعجب الطفلة التي كنتها، أو أسمع إحدى شارات المسلسلات التي كنت أتابعها. أثناء ممارستي الفعل الروتيني هذا قبل بضعة أيام، غمرتني حالة "نوستالجيا" هائلة فيما أتابع احتفال القناة بالذكرى الثانية والعشرين لانطلاقتها. علت من التلفزيون أغنية "تخيلوا أن الكون لا طعم له أو لون، أو أن التلفزيون من غير سبيستون"، ما جعلني آخذ السؤال على محمل الجدّ، وأفكّر حقيقةً: ماذا لو كان التلفزيون من غير سبيستون فعلًا؟ أعتقد أن الإجابة على فرضية كهذه لا بد أن تتناول الذاكرة الجمعية التي خلقتها لنا القناة وبرامجها، فلولا وجود "سبيستون"، لكان كثير من أطفال جيل الألفية في المجتمعات العربية سيصبحون أهالي جيل اليوم من دون أن تكون لهم ذكريات مرهفة، تشبه ذكريات آبائنا وأمهاتنا عن برامج تعليمية وترفيهية سابقة، كبرنامج "افتح يا سمسم" مثلًا. في ثمانينيات القرن الماضي، ساهم "افتح يا سمسم" في غرس العديد من المفاهيم الأخلاقية والعلمية في نفوس الأطفال، وبَسط لهم الكثير من المعارف، وعزز ارتباطهم باللغة العربية. وبعد نحو عقدين، أتت "سبيستون" لتلعب دورًا مشابهًا، لكن على شكل قناة فضائية ببرامج وافرة. اهتمت تلك البرامج، بما تضمنته من أغانٍ، بإثراء مفردات جمهورها. وبرغم أن بعض تلك المفردات كانت جديدة على مسمعي حين كنت تلميذة، إلا أنها كانت سهلة الحفظ. ذات ليلة، على سبيل المثال، بعدما انتهيت من أداء واجباتي المدرسية، هممت بمشاهدة مسلسل "هزيم الرعد" على شاشة القناة، وكانت أغنيته تقول "جاؤوك بصوت الحق الهادر...". التبس عليّ تفسير كلمة "الهادر"، فدوّنتها على غلاف كتاب اللغة العربية الداخلي كي أسأل الأستاذ عن معناها. أذكر شعوري بالفخر يومذاك وأنا أطرح سؤالي حول كلمة ظننتها على مستوى عالٍ من معرفة اللغة. بعدها عمدت مرارًا إلى إقحامها – وكلمات أخرى تعلّمتها – في ما أكتب من نصوص مدرسية. أعدّ نفسي اليوم واحدة من جيل الحقبة الذهبية لقناة "سبيستون". كنت في الخامسة من عمري عندما رحت أتابعها وأتعلّق بها، وكانت أول قناة عربية فضائية مجانية مخصصة بالكامل لبرامج الأطفال. كثيرًا ما أدهشتني فكرة الكواكب العشرة وتنوعها بين "أبجد" و"أفلام" و"أكشن" و"تاريخ" و"علوم" و"كوميديا" وخلافها. كان الشعار "سبيستون: قناة شباب المستقبل" يداعب خيالي أيضًا، فأتصور أحيانًا أني سأكون في المستقبل شابة يعلو ذاكرتها غبارُ النسيان، وتشغلني الأعمال والمسؤوليات عن تذكر مجرّد قناة لبرامج الأطفال. لكن العكس تمامًا هو ما حصل، فذكريات الطفولة الهادئة، كما تلك الجامحة بالخيال، لم يأتِ عليها الغبار بعد. رأيت قبل أيام على مواقع التواصل الاجتماعي الكثير من الشباب يحتفون بذكرى انطلاق القناة، ويتشاركون الذكريات عنها. راح كثر يؤكدون أن مشاهدة بعض برامجها ما زالت الطريق الأحب إليهم لاستعادة أيام الطفولة. جيل "سبيستون" هذا توقظ فيه شارة مسلسل "بابار فيل"، مثلًا، الكثير من الحنين والرغبة بأيام هدوء وسلام ولّت، فيما يستحضر عبارة "نحن الخير بطبعنا، لا نرضى ظلم الضعيف، لا يحيى بيننا إلا الإنسان الشريف". نقلَت لنا هذه الأغنية نصائح ومعان قريبةً للقلب، محمولةً على لحن رشيق في "دويتو" جميل بين أكثر شخصين ارتبط صوتهما بطفولتنا؛ طارق العربي طرقان ورشا رزق. لقد خلقت "سبيستون" ثيمة خاصة بها، وبقصد أو بغير قصد، صارت تلك الثيمة خاصة بجمهورها أيضًا. أتثبّت من هذا الواقع اليوم إذ أرى شبابًا يتداولون هذه الأغاني ويغنونها بطرق مختلفة على منصتي "يوتيوب" و"إنستغرام"، فيما تشهد حفلات رشا رزق أو طارق العربي طرقان حضورًا غفيرًا لجمهور لم تخفُت حماسته بمرور السنين، بل زاد تعلّقًا بحنينه.
صحفيون مخبرون: تهمة بلا لقمة

الصحافة في اليمن لم تعد مهنة المتاعب حتى، بل صارت مهنة يتاخمها التيه وتحدق بها مخاطر شتى، كثيرًا ما تنتهي...

جهينة عبد المنعم

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة